التقلبات الاقتصادية وأسعار النفط .. النرويج نموذجا
أصبح موضوع تقلبات أسعار النفط ليس مقتصرا على المختصين بل حديث المجالس، خاصة بعد الانخفاض الملحوظ بنسبة 35 في المائة مقارنة بما كان عليه في شهر يونيو الماضي. على الرغم من وجود عديد من الأسباب التي دفعت أسعار النفط إلى الانخفاض، سواء كانت من جانب الطلب (الناتجة من انخفاض الطلب في الدول الصاعدة ومشكلات النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي) أو جانب العرض (الناتجة من زيادة الإنتاج من دول خارج منظمة "أوبك"، التوسع في إنتاج النفط الصخري ومصادر الطلقة البديلة)، إلا أن معادلة تعامل المملكة مع أسواق النفط تغيرت من الحفاظ على مستويات الأسعار إلى المحافظة على الحصة السوقية. هذا التغير الإيجابي على صعيد السياسة النفطية يعتبر مناسبا في الفترة الحالية، على الأقل على المدى القصير حتى يتم تقييم متانة وفعالية هذه الاستراتيجية خلال الفترة القادمة. ولكن، يظل هناك بعض الغموض بخصوص الإطار العام للسياسة الاقتصادية لتحقيق الأهداف طويلة المدى.
هناك تجارب دولية عديدة، ولكن نركز على تجربة النرويجيين لأنهم استفادوا من دروس مؤلمة في الماضي بسبب عدم وضوح الرؤية في كيفية التعامل مع تقلبات أسعار النفط وتأثيراتها في الاقتصاد.
لماذا النرويج؟ أصبحت أوسلو محطة وقوف متكررة للدول المصدرة للموارد الطبيعية للتعرف على كيفية تقليل تأثير دورات "الازدهار والكساد" من أجل الحفاظ على استدامة الإنفاق الحكومي بغض النظر عن ما يحدث في أسعار السلع العالمية.
لذلك، استطاعت هذه الدولة الصغيرة المكونة من خمسة ملايين نسمة في أقل من 18 عاما ضبط الإنفاق العام وتكوين أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم، حيث إن أصوله تبلغ 860 مليار دولار.
الدروس المؤلمة: مرت النرويج بحقبتين تاريخيتين من سوء إدارة عائدات النفط. الأولى، عندما كانت أسعار النفط مرتفعة في السبعينيات، حيث قامت الحكومة النرويجية بإنفاق الكثير من أموال النفط من خلال تبني سياسات مالية توسعية وكذلك تقديم دعم كبير للقطاعين الصناعي والزراعي، مما أدى إلى زيادة مستوى الأجور على مستوى الاقتصاد ككل وتدهور في ميزان المدفوعات. ولكن سرعان ما تحسن ذلك لأن الثورة الإيرانية دفعت بأسعار النفط من عشرة دولارات للبرميل إلى 40 دولارا. الحقبة الثانية كانت في النصف الأول من الثمانينات، حيث إن النمو الاقتصادي كان مدفوعا بالإنفاق الحكومي مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم وتوسع الائتمان المصرفي بشكل كبير. كذلك من أجل زيادة تنافسية صادراتها، قامت الحكومة بتخفيض عملتها الكرونه. ولكن، عندما تدهورت أسعار النفط العالمية إلى عشرة دولارات في عام 1986م، كان الاقتصاد ضعيفا لمواجهة الصدمة الاقتصادية وبالتالي كانت النتيجة أزمة مصرفية استدعت إعادة رسملة وإنقاذ أكبر البنوك في النرويج.
أخذ العبرة: لذا في عام 1990م، قامت الحكومة النرويجية مع بعض السياسيين على الاتفاق على عدم تفويت أي فرصة ثالثة من خلال وضع السياسات الاقتصادية في نصابها الصحيح. لم يكن هذا الالتزام بكلمات "نرجسية"، ولكن تجلت صور هذا الالتزام بالانضباط الذاتي في الإنفاق الحكومي وكذلك تبني الإطار القانوني للصندوق السيادي. وهذا الصندوق كان موجودا بالاسم فقط (بمعنى آخر، على الورق) لمدة ست سنوات، حيث لم يتم إيداع أي من إيرادات النفط حتى مايو 1996م.
إن أهم قاعدة تم تبنيها للعلاقة بين الميزانية العامة للدولة والصندوق السيادي هي أن تمويل عجز الميزانية يتم تغطيته إلى حدود ٤ في المائة من إجمالي أصول الصندوق. هذه السياسة المالية ساعدت على تحقيق الانضباط في الإنفاق الحكومي واستدامة هذا الصندوق من خلال إنفاق العائد على الاستثمار وليس رأس مال الصندوق.
سياستنا الاقتصادية إلى أين؟ ها هي السياسة النفطية تغير اتجّاه البوصلة بالحفاظ على الحصة السوقية بدلا من استهداف أسعار النفط من خلال الاستفادة من الدروس المؤلمة، وبالأخص فترة 1986م إلى نهاية التسعينات عندما كان هناك عجز مستمر في الميزانية العامة للدولة وبلوغ الدين العام نسبة ١٠٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. من جهة أخرى، إنه من الإجحاف الاعتقاد أن الانخفاض الحالي في أسعار النفط سيضر المالية العامة للدولة بقدر ما في الماضي، والسبب في ذلك أن القائمين على السياسة المالية لديهم أدوات لتخفيف الهزات الاقتصادية على الأقل في المدى القصير من خلال استخدام الاحتياطي العام للدولة، والذي يقدر بنحو 850 مليار ريال في نهاية شهر أغسطس الماضي. ولكن في الوقت نفسه، توقعات صندوق النقد الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط تشير إلى أن البلدان النفطية ستسجل عجزا ماليا بحلول العام القادم إذا ظلت أسعار النفط عند مستوياتها الحالية.
خلاصة القول: لقد أُشبع هذا الموضوع تشخيصا من قبل المختصين عن بعض الرؤى والبدائل التي يمكن تنفيذها على أرض الواقع. ولكن يقع العاتق على الجهات المعنية (ومنها المجلس الاقتصادي الأعلى، ووزارة المالية، ووزارة الاقتصاد والتخطيط) بتقديم رؤيتهم عن اتجاه بوصلة السياسة الاقتصادية الكلية، لأن هذه التغيرات في أسعار النفط وبالتالي الميزانية العامة للدولة سيكون لها تأثير مباشر في مستوى الرفاه الاقتصادي للجيل الحالي وكذلك الأجيال القادمة. لقد كنا تحت وطأة التغيرات نفسها في أسعار النفط العالمية في السبعينات إلى التسعينات، حيث كان الإنفاق الحكومي يتأرجح مع أسعار النفط ومتأثرة معها الاحتياطيات الأجنبية صعودا ونزولا. فرصتنا الثالثة بدأت منذ عقد من الزمن، حيث زادت الإيرادات النفطية للميزانية من 333 مليار ريال إلى 1024تريليون ريال خلال 2013-2003م. إلى الآن، الأمل لا يزال معقودا على أن يتم الإمساك بزمام هذه الفرصة وعدم تضييعها من خلال الاستمرار بتنويع النشاط الاقتصادي، وتلبية احتياجات التنمية المتوازنة، وإصلاح التشوهات الهيكلية في سوق العمل، وزيادة الادخار للمستقبل من أجل تحقيق العدالة بين الأجيال.
(المصدر: الاقتصادية 2014-12-04)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews