التقلبات الاقتصادية .. والتخلص من عجز الموازنة
نقاش عريض عم الشارع السعودي حول موازنة الحكومة لعام 2015 التي جاءت مفعمة بالروح ومليئة بالتحدي والإصرار على مواصلة التنمية على الرغم من الصعوبة الكبيرة في التنبؤ بالتغيرات الاقتصادية اليوم. فمن الصعب جدا الوصول إلى تنبؤ معقول لأكثر من ستة أشهر مع الأحداث الراهنة. هذا واضح جدا فالتقلبات الاقتصادية في سوق النفط عالية ولها تأثيرات واسعة النطاق في اقتصاد كثير من دول العالم التي قد ستتأثر صناعتها ونموها وبالتالي طلبها على النفط، مما يؤثر في حجم الطلب الإجمالي وأسعار النفط في آخر السلسة لتستمر الدوامة من هبوط في الأسعار يؤدي إلى هبوط في النمو الاقتصادي العالمي ثم هبوط في الطلب والأسعار مرة أخرى. وبينما هذا السناريو محتمل هناك سيناريو آخر متفائل بأن انخفاض الأسعار سيؤدي إلى نمو الصناعات في العالم نظرا لانخفاض التكاليف ومن ثم تقوم هذه الصناعات بزيادة الطلب على النفط ما يعزز الأسعار عند مستويات توازن مقدرة حول 80 دولارا.
كل هذا وذاك متوقع، لذلك يصعب التنبؤ بدقة ومع ذلك جاءت الموازنة في وقتها، بل كما قلنا متفائلة ومتحدية وغير متحفظة وهذا على غير العادة أيضا. ولقد كان أمام الحكومة السعودية خيارات متنوعة لمواجه مشكلة التنبؤ هذه غير إعلان الميزانية التوسعية، منها مثلا عدم إعلان الموازنة في وقتها المعتاد، وهذا له ما يدعمه تشريعيا وهناك دول عدة في العالم تمارس هذا الخيار عندما تواجه صعوبات في التنبؤ بحالة الأسواق، فبدلا من إصدار موازنة جديدة يحوم حول تقديراتها شك كبير، يتم العمل بتقديرات موازنة 2014 لمدة ثلاثة أشهر على الأقل حتى تتضح صورة السوق النفطية تماما، واتجاهات النمو الاقتصادي العالمي.
كخيار ثان كان يمكن تطبيق ما أسمته الإدارة الأمريكية بسياسة حافة الهاوية التي طبقتها في عامي 2013 و2014 وهي ميزانية مقدرة بشرط فإذا لم يتحقق الشرط تم اقتطاع نسب معينة ومحددة سلفا من مصروفات كل جهة حكومية، ويبدأ العمل بذلك في فترة النصف الثاني من السنة المالية، فكأن الميزانية عبارة عن ميزانيتين الأولى توسعية إذا تحقق الشرط وتحفظية إذا لم يتحقق. لقد تركت الحكومة كل هذه الخيارات وقبلت بتحدي الظروف وأعلنت الموازنة في وقتها وبصورة محفزة للاقتصاد واستمرار وتيرة الإنفاق العالي. ومع ذلك جاءت الضبابية بعد إعلان الموازنة مع تضارب في تفسير تصريحات وزير المالية عن تخفيض الرواتب، فهل الحكومة وضعت موازنة من نوع حافة الهاوية "بتخفيض الرواتب" بشرط انخفاض الأسعار دون حد معين؟
لن أتحدث عن التصريحات، خاصة أن وزارة المالية قد نفت وجود أي توجه لخفض الرواتب، لكني أعرف أن الموازنة تشريع بالصرف، فإذا وافق مجلس الوزراء واعتمد المصروفات فإنها تصبح تشريعا يجب تنفيذه فورا بغض النظر عن كفاية الإيرادات. بمعنى لو أن الإيرادات لا تكفي فلا يتم الاقتطاع من المصروفات المعتمدة لمواجهة ذلك النقص بل يتم السحب من الاحتياطيات أو الاقتراض بل إنه في حالات سيئة جدا إذا لم تجد الدولة من يقرضها كما حصل مع اليونان فيتم بيع أصول الحكومة، لكن لا يتم الاقتراب من المصروفات المعتمدة، إلا بتشريع آخر من مجلس الوزراء، وهو ما لم يحدث إلا في حالات الإفلاس، وكل هذه الاحتمالات بعيدة جدا والحمد لله فنحن نتمتع باحتياطيات كبيرة تمكننا من تنفيذ الموازنة الحالية ولو بلغ سعر النفط دولارا واحدا ودون اقتراض أيضا، كما أن لدى الحكومة استثمارات ضخمة وأصولا هائلة تمكنها من تسير الاقتصاد وتمويل الموازنات لسنوات دون قلق.
وبافتراض أن الأسعار تهاوت دون 20 دولارا في السنوات المقبلة فهل الحل هو تخفيض الرواتب؟ بالطبع لا هنا عدة حلول بخلاف تخفيض الرواتب. فمثلا نعاني في السنوات أخيرة ضخامة التمويل على المشاريع التنموية الكبيرة مثل مشاريع السكك الحديدة ومشاريع النقل العام، مثل هذه المشاريع يمكن أن يتم خصصتها بالكامل، حيث تحول إلى شركات مساهمة، تمولها سوق الأسهم السعودية، وهكذا تتخلص الموازنة من مصروفات ضخمة، بل إن الوضع سيتحول إلى إيرادات من خلال حقوق الامتياز التي ستدفعها هذه الشركات إلى الدولة. وكخيار آخر نجد أن معدلات الضريبة في المملكة هي الأدنى وفق تقرير نشرته الاقتصادية خلال الأسبوع الماضي، ولا نقول برفع هذه المعدلات على السلع ذات الاستهلاك المباشر بل يمكن رفعها على السلع التي تستوردها الشركات في تنفيذ مشاريعها، هذه الضرائب ستكون ذات أثر مباشر في الإيرادات، لكنها في الوقت نفسه لن تكون ذات تأثير مباشر في أسعار السلع الاستهلاكية. وأيضا هناك كثير من الشركات التي تستورد سلعا غير مباشرة الاستهلاك، ويمكن فرض رسوم جمركية أعلى على هذه السلع المستوردة. مثال آخر، وهو فرض الضريبة على تحويلات الأجانب للخارج خاصة الشركات الأجنبية، وأيضا فرض ضريبة من أرباح المضاربات في الأسهم المحلية على الشركات الأجنبية التي من المتوقع دخولها السوق. من أهم الحلول أيضا هو البدء في مشروع لقياس كفاءة وفعالية الأجهزة الحكومية وبرامجها، خاصة ظاهرة إنشاء شركات خاصة تابعة للجهات الحكومية والوزارات، حيث تقوم هذه الشركة بالتوسع في التعيين وصرف الرواتب والبدلات وعلى فئة معينة من الموظفين، وهذا كله يرفع حجم المصروفات، لذلك يمكن إعادة دارسة فعالية وكفاءة هذا الجهات وبرامجها، وأين يحدث الهدر ومن ثم ترشيد الإنفاق فيه.
وعلى الرغم من كل هذه الخيارات المتوافرة لتخفيض العجز وزيادة الإيرادات هناك كثير مما يجب عمله لتعزيز دور القطاع الخاص، وأهم دور الآن هو رفع رواتب الموظفين في القطاع الخاص، على الأقل بما يتناسب مع حجم الإيرادات التي يتحصل عليها من ميزانية الدولة، فمثلا هناك الشركات التي تقوم بمشاريع توسعة الحرمين الشريفين، لابد أن ترفع من حجم تشغيل العمالة السعودية ولا بد أيضا أن تقوم برفع رواتبهم، وهذا يجب أن يتم في كل الشركات التي تأخذ مشاريع من الحكومة، ما يعزز من أمرين معا، الأول تخفيض نسب التوظيف في الحكومة في السنوات المقبلة وتعزيز التوظيف في القطاع الخاص بمزايا أفضل من الحكومة، أيضا استمرار قدرة المواطنين على الشراء مما يعزز النمو.
هذه النقطة الأخيرة لا تقل أهمية عن كل ما ذكر، فيجب المحافظة على قدرة المواطنين على الشراء وبما يعزز النمو ويقلل من احتمالات الركود والكساد -لا سمح الله-، ولهذا فإن أي اتجاه لتخفيض الرواتب سيكون له أثر مباشر في قدرة المواطنين على دفع التزاماتهم وهو ما سنعكس على قدرتهم على الشراء ما يؤثر في حجم الاقتصاد وبالتالي إيرادات الدولة في نهاية السلسلة، فكأننا بتخفيض الرواتب نعزز من العجز في السنوات المقبلة بسبب انخفاض أنواع مختلفة من الإيرادات نظرا لضعف النمو أو الركود. والله أعلم.
(المصدر: الاقتصادية 2015-01-03)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews