ما آثار انخفاض النفط في الاقتصاد السعودي؟
تعد الصدمة الثانية خلال أقل من عقد من الزمن، تلك التي يتلقاها الاقتصاد الوطني في الفترة الراهنة خلال أقل العقد الزمني الأخير، التي جاءت نتيجة انخفاض أسعار النفط بنحو 60 في المائة، مقارنة بمستواها في منتصف 2014. جاءت الصدمة الأولى نتيجة اشتعال الأزمة المالية العالمية خلال الربع الأخير من 2008، واستمرت تداعياتها القاسية حتى ما قبل نهاية الربع من 2009، انخفضت أسعار النفط خلال ثلاثة أشهر ونصف الشهر فقط بنسبة 61 في المائة، لتعود إلى الارتفاع مع نهاية شباط (فبراير) 2009، بعد تدخل البنوك المركزية حول العالم آنذاك، وضخها تريليونات الدولارات في الاقتصادات والأسواق، إلا أنه رغم سياسات الإنقاذ التي اتخذت آنذاك، ورغم قصر فترة الضغوط على الاقتصاد الوطني، فقد سجل النمو الحقيقي خلال العام التالي 2009 تراجعا إلى 1.9 في المائة، مقارنة بنمو 2008 البالغ 8.3 في المائة، وتراجع خلال الفترة نمو القطاع غير النفطي من 9.8 في المائة إلى 5.3 في المائة.
وبالنسبة لبقية المؤشرات الاقتصادية والمالية خلال 2009؛ فجاء أهمها على النحو الآتي: انخفض إجمالي الإيرادات الحكومية بـ 53.7 في المائة "الإيرادات النفطية بـ 55.8 في المائة"، وانخفضت الأصول الاحتياطية بـ 7.4 في المائة، وانخفضت الصادرات بـ 38.7 في المائة "الصادرات النفطية بـ 42 في المائة"، وانخفضت الواردات بـ 17 في المائة. وتجمد نمو الائتمان المصرفي خلال العام، وتراجع نمو الودائع المصرفية من 17.9 في المائة إلى 11.2 في المائة، واستمر تأثير الأزمة في القطاع المالي إلى نهاية 2011، وتحملت سوق الأسهم خسائر فادحة خلال 2008 وصلت إلى 56.2 في المائة.
بمقارنة الآثار المقدرة حتى تاريخه للصدمة الثانية في الاقتصاد الوطني لعام 2015، لا تزال أدنى من آثار الصدمة الأولى، فالنمو الحقيقي للاقتصاد يقدر أن يستقر عند 2.8 في المائة، وللقطاع غير النفطي عند 3.1 في المائة، وأن تنخفض الإيرادات الحكومية بـ 30.9 في المائة، وانخفاض الصادرات بـ 31 في المائة "الصادرات النفطية بـ 35 في المائة"، وأن تنخفض الواردات بـ 12 في المائة، وألا يقل نمو كل من الودائع المصرفية والائتمان المصرفي عن 10 ونحو 9 في المائة على التوالي. إلا أن ما يخشى منه هو أن تستغرق الأزمة الراهنة فترة أطول، قد تمتد إلى أكثر من عام! والحال لا شك أنها ستكون أكثر تعقيدا إن هي امتدت لأكثر من ثلاثة أعوام، ففي تلك الحالة قد يشهد الاقتصاد الوطني الكثير من الضغوط الاقتصادية والمالية التي لم يسبق له أن واجهها طوال نصف قرن مضى، سيزيد من ثقلها الجسيم على كاهله ما يكابده في الوقت الراهن من أزمات مستدامة "البطالة، تضخم العقار وأزمة الإسكان، الاحتكار، التفاوت الكبير لمستويات الدخل بين شرائح السكان، ارتفاع حجم المديونيات على الأفراد، ضعف قاعدة الإنتاج المحلية، هشاشة منشآت القطاع الخاص، معوقات بيئة الاستثمار المحلية".
إن امتداد فترة انخفاض النفط، وزيادة الانخفاض في أسعاره، يعني في مواجهة التحديات التنموية المشار إلى عدد منها أعلاه؛ يعني دون شك أن الاقتصاد الوطني سيكون أمام تحديات ثقيلة الوزن، قد تكون الأصعب في تاريخه الحديث، وأنه باختصار شديد سيتحمل أعباء وآثارا تفوق كثيرا ما عاناه عقب الصدمة الأولى نهاية 2008 "الأزمة المالية العالمية"، وأن سلة خيارات الحلول المتوافرة لديه في الوقت الراهن، والتي تتمتع بقدرتها على منح الاقتصاد مرونة، ودعم قدرته على امتصاص الصدمات المرتقبة بما لا يتجاوز عامين قادمين على أحسن الأحوال! ما يعني أنه سيواجه انكماشا أكبر في النمو والتنمية، وعجزا أكبر في الميزان المالي، سيترتب عليه ارتفاع أكبر في حجم الدين العام، وتآكل في أرصدة الاحتياطيات المالية، عدا انكماش التجارة الخارجية، وتفاقم معدلات البطالة والفقر وتفاوت الدخل إلى آخر التحديات الجسيمة اقتصاديا وماليا واجتماعيا.
لهذا؛ تستوجب المواجهة الحقيقية للتحديات تلك، وللأزمات المحتملة مستقبلا، نمطا عمليا مختلفا تماما عما اعتدنا عليه طوال العقود الماضية، مؤكدا في هذا السياق أن التهوين من الصعوبات التي تستقبلنا، لا ولن يقدم حلولا حقيقية، بل إنه قد يتسبب في تفاقم الآثار السلبية في الاقتصاد الوطني، كونه قد بعث في عقول القيادات والأفراد على حد سواء إشارات خادعة جدا، لا تمت بأي حال من الأحوال إلى واقع المخاطر الراهنة والمحتملة بأي صلة كانت، وأن الانتباه والترقب الشديدين لكل ما تظهره وقائع وتطورات الفترة الراهنة وفي المستقبل القريب، يعد "شاشة الرادار" التي يجب ألا تغفل أعيننا جميعا عنها، وأن تتم ترجمتها بكل دقة في حيثيات القرارات والإجراءات الواجب اتخاذها، وهو الأمر الذي يجب أن يتم وفق ما أشرت إليه سابقا؛ الرؤية الاستراتيجية الشاملة، التي تكفل تنفيذ برامج أعمال تكاملية بين مختلف كيانات القطاعين الحكومي والخاص، وهو الجزء الأهم من الحلول المقترحة من الكاتب، الذي سيأتي الحديث عنه مفصلا في المقالات القادمة بمشيئة الله.
يجب الاعتراف بأن نسيج السياسات الاقتصادية الراهنة، جزء رئيس من الأزمة الراهنة! وأن تلك السياسات تسببت في إضعاف قدرة الاقتصاد الوطني، طوال العقدين الأخيرين تحديدا، على تجاوز ما سبقت الإشارة إليه من تحديات تنموية إبان الوفورات المالية الهائلة نتيجة ارتفاع أسعار النفط، فما بالنا ونحن في مواجهة حقبة زمنية على النقيض تماما؟! فإذا لم يتمكن الاقتصاد من التغلب أو السيطرة على تحديات كالبطالة أو تفاوت مستويات الدخل أو أزمة الإسكان أو غيرها من التحديات، تحت مظلة تلك السياسات الاقتصادية فترة الرواج النفطي، فكيف سيكون لها أن تقدم شيئا يذكر تحت ضغط الظروف الراهنة البالغة الصعوبة؟ الفارق الوحيد بين الحقبتين "ارتفاع النفط وانخفاضه"؛ أن فوائض النفط أسهمت في ستر العيوب والاختلالات الكامنة في جسد السياسات الاقتصادية، وأسهمت في ترقيع اهتراء أداء مختلف الأجهزة الحكومية، بل حتى في إنعاش أغلب رئات كيانات القطاع الخاص حتى أدمنت الدعم الحكومي السخي، سواء عبر التسهيلات المالية من صناديق التنمية، أو عبر العقود والمناقصات الأكثر سخاء "فاقت قيمتها خلال العقد الماضي 2.1 تريليون ريال".
لن يؤدي تجاهل ذلك الاعتراف بهشاشة تلك السياسات، وضرورة تغييرها وتحديثها تماما من رأسها إلى أخمص قدميها، أقول لن يؤدي إلا إلى مزيد الأوجاع والعواقب التي لن تحمد عقباها. وعلى العكس تماما؛ لو مضت جهود إصلاحها وتغييرها "ولعل الوقت يسمح لنا بذلك"، فلا شك أن اقتصادا ستحتويه أطر وسياسات أكثر بصيرة وفعالية وديناميكية، سيكون أكثر قدرة وتحملا وكفاءة على التعامل مع التحديات المستقبلية، التي بدأت تطل بمخاوفها المتعاظمة مبكرا منذ مطلع الأزمة الراهنة! أخيرا؛ ليس المقام في مواجهة واقعنا ومستقبلنا محل تشاؤم أو تفاؤل، بقدر ما أنه يجب علينا مواجهتهما بأمانة وثقة وموضوعية، فلن ولم يغير التفاؤل اللون الأسود إلى أبيض، والعكس أيضا صحيح بالنسبة للتشاؤم. والله ولي التوفيق.
(المصدر: الاقتصادية 2015-08-24)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews