حقبة انخفاض أسعار النفط .. حقبة ارتفاع الديون
طالت فترة انخفاض أسعار النفط وقاربت السنتين منذ أن بدأت في منتصف 2014، وأخذت مخاطر الأسعار المنخفضة في البروز على الساحة، وأصبح من الواضح اليوم أن الدول النفطية أصبحت تواجه ورطة مالية، مقارنة بما كان يثار وقت بدء تراجع الأسعار من الاطمئنان بقدرتها على تجاوز آثارها، استنادا إلى ما كونته من احتياطيات مالية في فترات ارتفاع أسعار النفط التي يمكن أن تعمل كمصدات مالية لمواجهة الآثار المعاكسة لانخفاض أسعار النفط في اقتصاداتها.
غير أن مستويات العجز الكبيرة التي حققتها موازنات تلك الدول، أو تلك المرصودة في مشاريع موازناتها للسنة المالية الحالية، أو حتى سيناريوهات العجز المتوقعة في السنوات المالية القادمة، ترتب عليها تحول الدول النفطية من دول تحقق معدلات فوائض مرتفعة إلى دول تحقق أعلى معدلات للعجز المالي إلى الناتج في العالم.
من بين دول الخليج ربما تكون قطر والكويت والإمارات في موقف مالي أفضل من باقي دول المجلس، بصفة خاصة فإن اقتصاد الإمارات يعد أكثر تنوعا من باقي الدول الأخرى، وبالتالي من المفترض أن يكون الأقل تأثرا بتراجع أسعار النفط، غير أن هذه الدول مرشحة لتخفيض تصنيفها الائتماني السيادي في المستقبل القريب.
لقد أصبح من الواضح للعيان أن معدلات السحب من الاحتياطيات المالية أصبحت مرتفعة للدرجة التي يمكن أن تؤثر في سلامة هذه المصدات المالية وقدرتها على مساندة هذه الدول لفترة طويلة، وقد أصبح ينظر إلى ارتفاع معدلات السحب من احتياطياتها بقدر كبير من القلق، وخصوصا أن درجة ومستويات السيولة المتاحة للحكومات تتأثر بشكل واضح مع تراكم عمليات السحوبات من الاحتياطيات.
وقد جاء ذلك واضحا في الرسائل التي وجهتها مؤسسات التصنيف الائتماني السيادي في العالم لهذه الدول عبر تخفيض درجات التصنيف الائتماني السيادي لها، فقد تم تخفيض التصنيف الائتماني السيادي لبعض هذه الدول من جانب مؤسستي ستاندارد آند بورز وموديز، وأخيرا بعثت هذه المؤسسات برسالة قوية إلى حكومات بعض الدول الخليجية بأنها ربما تراجع تصنيفها الائتماني السيادي، إذا لم تثبت قدرتها على مواجهة تبعات تراجع أسعار النفط. أكثر من ذلك فقد طال هذا التخفيض السيادي بعض القطاعات المصرفية فيها، خشية أن ينزلق تأثير تراجع أسعار النفط من موازنات هذه الدول وإنفاقها العام إلى أجهزتها المصرفية والمالية الأخرى.
لقد أصبح مطلوبا من دول المجلس الآن أن تثبت لمؤسسات التصنيف الائتماني أنها قادرة على تجاوز مخاطر الأسعار المنخفضة للنفط على ماليتها العامة من خلال تنويع مصادر دخولها وتخفيض اعتماد ميزانياتها على النفط وذلك في إطار خطط إصلاح جادة تضمن استدامة سلامة ماليتها العامة. غير أن استيفاء هذه المتطلبات في غضون فترة قصيرة قد يصعب تحقيقه، فجميع السيناريوهات المتوافرة حاليا حول أوضاع السوق النفطية تضع أسعار النفط عند مستويات منخفضة، في المقابل فإن برامج الإصلاح المالي التي أعلن عنها حتى الآن لا تكفي لمواجهة العجز، وبالتالي سيستمر العجز مرتفعا في المستقبل.
من بين دول الخليج قامت الكويت أخيرا بإعداد وثيقة مكثفة للإصلاح المالي والاقتصادي على المديين القصير والمتوسط، متضمنة عددا من المسارات الهادفة إلى تخفيض عجز الموازنة من خلال برنامج مكثف للإصلاح المالي يتضمن خفض مستويات الدعم ورفع معدلات الضرائب، فضلا عن الإصلاح الهيكلي من خلال إعادة رسم دور الدولة في الاقتصاد الوطني وإطلاق قدرات القطاع الخاص ودعم برامج الشراكة والتخصيص والمشاريع الصغيرة والمتوسطة وجذب المستثمرين وإصلاح سوق العمل، فضلا عن تهيئة بيئة الأعمال من خلال إصلاحات تشريعية وإجرائية عديدة.
دول الخليج الأخرى اقتصر الإصلاح فيها على خفض دعم البنزين والكهرباء والماء، فضلا عن رفع بعض الرسوم، وهو ما يعني أنه ربما سيصبح من الصعب إقناع مؤسسات التصنيف الائتماني بقدرة الدول النفطية على تجاوز مخاطر الوضع الحالي، ولذلك نتوقع موجة من تخفيض التصنيفات الائتمانية للدول الخليجية بحلول أيار (مايو) القادم.
المشكلة أن تراجع التصنيف الائتماني لدول الخليج سيأتي في التوقيت الخطأ، لأن أي تراجع في التصنيف الائتماني سيؤدي إلى ارتفاع معدلات الفائدة على قروض هذه الدول، ومن ثم ارتفاع تكلفة الاقتراض لدول المجلس، في حال لجوئها إلى هذا الخيار.
حتى اليوم لم تحدد الدول النفطية كيفية تمويل عجوزاتها المالية، ولا الآليات المفضلة في التعامل مع هذا العجز، ولكن من المتوقع أن تلجأ دول الخليج إلى المزج بين السحب من الاحتياطيات واللجوء للاقتراض، سواء المحلي أو الاقتراض الخارجي من الأسواق الدولية. غير أنه أخيرا أخذت التقارير تتراكم باعتزام الدول النفطية البدء في عمليات اقتراض من الأسواق العالمية سوف تشكل تطورا مهما في الملاءة المالية لهذه الدول. فقد حذرت وكالة موديز للتصنيف الائتماني من أن دول الخليج سوف تلجأ إلى الاقتراض لمواجهة عجوزاتها المالية التي تم تقديرها في 2016 بنحو 270 مليار دولار، خلال العامين القادمين، مع استمرار أسعار النفط منخفضة.
تراجع التصنيف الائتماني وارتفاع معدلات الفائدة على الديون مع انخفاض معدلات النمو هي المكونات الأساسية لوصفة تصاعد نسبة الديون إلى الناتج، ومن المؤكد أن انخفاض أسعار النفط وتزايد العجوزات المالية يفرض عددا من التحديات على الدول النفطية، التحدي الأول هو تزايد الديون وارتفاع نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتحدي الثاني هو تزايد تكلفة الدين إلى الناتج، والثالث هو انخفاض معدل النمو مقارنة بتكلفة خدمة الدين.
فمن الناحية النظرية من المفترض أن تراعي الدول المدينة العلاقة بين معدل الفائدة الحقيقي على ديونها ومعدلات النمو الحقيقي للناتج فيها. فإذا كان معدل النمو الحقيقي أعلى من معدل الفائدة الحقيقي على الديون، فإن نسبة الديون إلى الناتج تكون مرشحة للتناقص بمرور الوقت مع تراجع عبء الدين. أما إذا كان معدل الفائدة الحقيقي أعلى من معدل النمو الحقيقي للناتج، فإن مدفوعات الفائدة على الديون تتزايد في هذه الحالة بصورة أسرع من معدل نمو الناتج، وبالتالي فإن خدمة الديون تدفع بعبء الدين إلى الارتفاع بمرور الوقت.
وعلى ذلك وفي ظل الأوضاع الحالية يمكن القول إن الحقبة الحالية لتراجع أسعار النفط ستضع حجر الأساس لحقبة جديدة من ارتفاع الديون على الدول النفطية.
(المصدر: الاقتصادية 2016-03-25)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews