الاقتصاد العالمي بحاجة إلى أسعار مستقرة ومستدامة
بعد عشر سنوات من تقلب أسعار النفط، شهدت السنوات الثلاث الماضية فترة غير مسبوقة من الاستقرار في أسواق النفط العالمية، حيث بلغ متوسط أسعار خام بحر الشمال القياسي برنت في نهاية عام 2013 ما يقرب من 110 دولارات للبرميل لمدة ثلاث سنوات على التوالي. لكن التوقعات لعام 2014 تشير إلى تراجع أسعار برنت إلى 105 دولارات للبرميل في المتوسط على خلفية وفرة الإمدادات ونمو الطلب أضعف من المتوقع. لقد ساعدت مجموعة من الأحداث الجيوسياسية في سورية، ليبيا، السودان / جنوب السودان ونيجيريا في كبح جماح نمو الإمدادات العالمية على الرغم من الارتفاع الكبير في الإمدادات من الدول المنتجة خارج منظمة أوبك المدعومة بالزيادة المستمرة في إنتاج الصخر الزيتي من الولايات المتحدة والرمال النفطية الكندية. لقد ظلت أسعار النفط مرتفعة حتى الآن، لكن إلى أي فترة ستبقى أسعار النفط فوق حاجز 100 دولار للبرميل؟
الانخفاض المحتمل في الأسعار يأتي في وقت يقترب فيه أكبر مستهلك للطاقة في العالم من تحقيق الهدف الذي وضعه منذ وقت طويل وهو الاكتفاء الذاتي من الطاقة. لقد بدأت الولايات المتحدة بهذا المسعى في أعقاب ما يسمى "أزمة النفط في عام 1973"، خلال السنوات الأخيرة شهدت الولايات المتحدة تطوير برنامج نووي شامل، إنتاج الوقود الحيوي، السعي لتطوير مصادر نفطية عالية التكلفة مثل الرمال النفطية في كندا، الحقول العميقة في خليج والمكسيك وحتى المناطق الصعبة في ألاسكا.
وفي الآونة الأخيرة، أدى تطوير مصادر غير تقليدية من النفط والغاز في الولايات المتحدة إلى إحداث طفرة في إمدادات الطاقة وثورة في سياسات الطاقة، حيث إن الولايات المتحدة على وشك أن تصبح دولة مصدرة للغاز. التطور السريع في موارد الصخر الزيتي والسجيل الغازي بدأ خارقا في بعض الأحيان، لكن مثل العديد من المصادر التقليدية، تعتمد الولايات المتحدة على إنتاج أكثر تكلفة (60 إلى 80 دولارا للبرميل أو أكثر في بعض الأحيان) وأكثر محفوف بالمخاطر. حيث إن معدلات نضوب الآبار في هذه الموارد عالية جدا تحتاج إلى عمليات حفر مستمرة. نتيجة لذلك إمدادات الولايات المتحدة المحلية معرضة جدا لتقلبات الأسعار، كما شهدنا ذلك عندما توقف تقريبا العمل في تطوير موارد الرمال النفطية الكندية في أعقاب انخفاض الأسعار بعد منتصف عام 2008.
بالنظر إلى بطء الانتعاش الاقتصادي العالمي ومعدلات النمو المنخفضة بشكل غير متوقع في الهند والصين، فإن تراجع أسعار النفط يبدو أكثر احتمالا من أي وقت مضى. مع تخلف نمو الطلب العالمي على النفط عن ارتفاع الإمدادات العالمية، هل ستتمكن صناعة النفط والغاز الأمريكية الصمود في وجه تقلبات الأسعار بعد أن أصبحت بشكل متزايد تعتمد على أسعار عالية لتبقى مربحة؟
في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من انخفاض تكاليف إنتاج النفط فيها، إلا أن عددا قليلا فقط من دول المنطقة يمكنها تحمل انخفاض الأسعار دون 100 دولار للبرميل لمدة طويلة. معظم دول المنطقة في حاجة إلى أسعار نفط بحدود 90 دولارا للبرميل أو أكثر لتغطية الإنفاق الحكومي الحالي. في هذا الجانب، يتوقع صندوق النقد الدولي حدوث عجز مالي في معظم دول المنطقة المصدرة للنفط بحلول عام 2015 في حال حدوث انخفاض كبير في أسعار النفط. بل حتى عند 100 دولار للبرميل يتوقع الصندوق أن يتباطأ الإنفاق العام في المنطقة بشكل عام.
حتى العراق، على الرغم من أنه يشهد أكبر ارتفاع في الإنتاج ضمن المنطقة في الوقت الحالي، إلا أنه يشهد عجزا متزايدا في الميزانية، حيث إن الإنفاق الحكومي يفوق الإيرادات المتزايدة. موازنة العام الماضي للعراق بلغت نحو 119 مليار دولار، بارتفاع كبير بلغ ستة أضعاف مستويات الإنفاق لعام 2004، في حين يتوقع أن ينفق ما يزيد على 150 مليار دولار هذا العام. على الرغم من أن إنتاج العراق الآن هو في أعلى مستوى له منذ عقود، حيث بلغ نحو 3.5 مليون برميل يوميا في شباط (فبراير) وصدر نحو 2.8 مليون برميل في اليوم، إلا أن زيادة الإيرادات تعتمد كليا على أسعار نفط مرتفعة. أي انخفاض في الأسعار لمدة طويلة يعني أن العجز الذي يراوح حاليا بنحو 17 في المائة سيتفاقم.
إن أي انخفاض حاد في الأسعار قد يهدد الاستقرار السياسي في معظم أنحاء الشرق الأوسط، في حين سيقوض نمو صناعة النفط في الولايات المتحدة. في الوقت نفسه ارتفاع الأسعار بشكل كبير مشابه لما حدث في عام 2008 يهدد أيضا استقرار الاقتصاد العالمي. في عشر من أصل 11 حالة ركود في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، الركود الاقتصادي قد سبقه ارتفاع في أسعار النفط، وفقا لدراسة قام بها الاقتصادي جيمس هاملتون. قبل كل شيء، التقلبات الكبيرة في الأسعار تتعارض مع خطط إنفاق المستهلكين، مع استراتيجيات التطوير والإنتاج للدول المنتجة على حد سواء.
لحماية أنفسهم من تقلبات الأسعار، يقوم أعضاء وكالة الطاقة الدولية والعديد من المستهلكين الرئيسيين الآخرين بتخزين احتياطيات الطاقة. نظرا للتقلبات الكبيرة في الأسعار التي شهدتها الأسواق العالمية بين عامي 2000 و2010 والاضطرابات الجيوسياسية اللاحقة في منطقة الشرق الأوسط، تطلب الأمر من المنتجين والمستهلكين التدخل بهدف استقرار الأسعار.
إن استقرار أسعار الطاقة عند مستويات مقبولة للمنتجين والمستهلكين على حد سواء يعطي يقينا إلى الأسواق وإلى سياسات الطاقة في العالم. على سبيل المثال أسعار نفط في حدود 100 دولار للبرميل تعطي أيضا آثارا جانبية إيجابية لنظام الطاقة العالمي، حيث إنها تروج لرفع كفاءة استخدام الطاقة وتشجع الشركات النفطية في الاستثمار في تقنيات أكثر كفاءة وفي مواقع نائية. قد يجادل بعض المنتقدين بأن مثل هذا المستوى من الأسعار من شأنه أن يبطئ نمو الاقتصاد العالمي والانتعاش، لكن على المدى الطويل سيعمل على تخفيف التأثيرات السلبية لدورة الازدهار والكساد الاقتصادية والحد من المخاطر التي تتعرض لها استثمارات الطاقة في المستقبل. إن بناء الانتعاش الاقتصادي على أسعار للطاقة رخيصة غير واقعي ويعرض الاقتصاد العالمي لمخاطر أكبر عند حدوث صدمات في الأسعار لا يمكن تجنبها.
إن ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي أسعار مستقرة ومستدامة تمكنها من توفير أساس للتخطيط فاعل للمنتجين والمستهلكين على حد سواء. أفضل مسار للعمل لتحقيق هذا الاستقرار هو عن طريق الحوار بين كبار المستهلكين والمنتجين من أجل ضمان استقرار وكفاءة عمل أسواق الطاقة. منتدى الطاقة الدولي الذي يضم في عضويته نحو 87 دولة منتجة ومستهلكة للطاقة ومقره الرياض هو احد أهم ميادين الحوار بين المستهلكين والمنتجين، في الوقت الحاضر هناك حاجة إلى دعم أمانته العامة بكوادر متخصصة في مجال الطاقة أكثر من أي وقت مضى.
( الاقتصادية 10/4/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews