أوكرانيا بين الحرية والأزمة الاقتصادية
وضع أوكرانيا المالي بعد الأزمة العالمية
الأزمة الاقتصادية العالمية أدت إلى تدهور الأوضاع المالية في أوكرانيا وأصبحت الميزانية العامة وميزان المدفوعات في حالة عجز مزمن ليضاف ذلك إلى حالة الفساد وسوء الإدارة والأزمة السياسية القائمة.
إذاً ما مدى حجم هذا التدهور وما هي انعكاساته وكيف يمكن تقدير دور كل من روسيا والاتحاد الأوروبي في التعامل معه؟
"
أدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى هبوط حاد للصادرات الأوكرانية وإلى انخفاض عوائد البلد من نقل الغاز الطبيعي جراء تقليص الطلب الأوروبي فهبط النمو بنسبة عالية جداً
"
يعتمد اقتصاد أوكرانيا على صادرات الحديد (ثامن بلد منتج في العالم) والفحم والمواد الغذائية والأدوات المصنعة. وتلعب روسيا دوراً كبيراً في التجارة الخارجية الأوكرانية من ثلاث زوايا: الأولى أنها أول مستورد للسلع الأوكرانية وأول مصدر للسلع إلى أوكرانيا. والثانية أن الأوكرانيين من أكبر المستهلكين للغاز الطبيعي في أوروبا. وبسبب عدم كفاية الإنتاج المحلي يستورد البلد القسط الأكبر من حاجاته من روسيا وتركمانستان. علماً بأن الغاز الطبيعي التركمانستاني كالغاز الطبيعي الروسي يمر عبر الأراضي الروسية. والزاوية الثالثة أن أوكرانيا تملك ثاني أضخم شبكة أنابيب لنقل الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا تستخدم لنقل 110 مليارات متر مكعب سنوياً إلى دول الاتحاد الأوروبي. ويمثل هذا الحجم ما بين 70% و80% من الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا, وتنقل النسبة المتبقية عبر روسيا البيضاء.
وروسيا هي الممول الأول للاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي الذي يمثل 26% من الطلب الأوروبي. وتأتي الجزائر بالمرتبة الثانية ثم النرويج فقطر، علماً بأن بريطانيا وإسبانيا والبرتغال لا تستورد الغاز الطبيعي من روسيا. أضف إلى ذلك أن روسيا هي الممول النفطي الأول للاتحاد الأوروبي.
تعكس هذه الصورة مدى أهمية العلاقات التجارية والمالية بين روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
وقد أدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى هبوط حاد للصادرات الأوكرانية وإلى انخفاض عوائد البلد من نقل الغاز الطبيعي جراء تقليص الطلب الأوروبي فهبط النمو بنسبة عالية جداً بلغت 15% في عام 2009. ولم يستطع الاقتصاد الأوكراني تخطي هذه الأزمة حتى الآن بل دخل في دوامة الاختلالات المالية فتفاقمت الديون الداخلية والخارجية. وأصبح من الضروري الحصول على مساعدات خارجية، أي على مصادر مالية تخضع لمعايير سياسية بالمقام الأول.
وكانت روسيا الممول الأساس لأن نظام الحكم الأوكراني كان يدور في فلكها. وما إن حدثت تغييرات سياسية في فبراير/شباط المنصرم حتى تخلت روسيا كليا عن تقديم المساعدات بل أصبحت سبباً إضافياً للأزمة المالية الأوكرانية، في حين أن العلاقات الاقتصادية والثقافية عميقة بين البلدين من جميع النواحي ومنذ فترة طويلة.
وبالمقابل اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً مسانداً للحكومة الأوكرانية المؤقتة في الوقت الذي يبدو فيه أن الشعوب الأوروبية ترفض تعزيز العلاقات المالية والسياسية معها. فعلى سبيل المثال يشير استطلاع حديث للرأي العام الفرنسي أن 65% من الفرنسيين يرفضون منح مساعدات لأوكرانيا وأن 67% منهم يعارضون انضمامها للاتحاد الأوروبي.
المؤشرات تدل على خطورة الأزمة
يشير الجدول (تركيب أعده المؤلف انطلاقاً من إحصاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي طبقا لأرقام تقديرية لعام 2014) إلى اختناق مالي شديد يعكس مدى خطورة الأزمة الأوكرانية.
2014 2013 2012 المؤشر
2.8 0 0.2 النمو %
8.0 8.0 7.5 البطالة %
4.7 0.5 0.6 التضخم %
12.6 8.1 8.0 سعر الصرف
4.6 5.7 4.5 العجز المالي % من الناتج المحلي الإجمالي
44.7 41.3 37.4 الديون الداخلية % ن.م.إ
7.8 7.9 8.2 عجز ميزان المدفوعات % ن.م.إ
2.4 2.4 3.8 الاستثمارات الأجنبية % ن.م.إ
11.2 18.5 24.5 الاحتياطيات النقدية % ن.م.إ
75.3 76.7 76.6 الديون الخارجية % ن.م.إ
وأدى تباطؤ النمو في أوكرانيا منذ خريف عام 2008 إلى نتيجتين أساسيتين: النتيجة الأولى انخفاض حصيلة الضرائب. إذ ترتبط هذه الحصيلة ارتباطاً وثيقاً بمستوى النمو ناهيك عن الدور السلبي لظاهرة التهرب الضريبي وتفشي الفساد الإداري.
قاد هذا الوضع إلى هبوط الإيرادات العامة كما ارتفعت النفقات العامة تحت تأثير عدة عوامل في مقدمتها وجود عدد هائل وغير منتج للموظفين الحكوميين، الأمر الذي يفسر إلى حد ما بطالة معتدلة نسبيا تقل عن البطالة في إيطاليا وفرنسا والسعودية.
وارتفعت هذه النفقات بسبب الاعتمادات الهائلة المخصصة لتعضيد الاستهلاك. فعلى سبيل المثال بلغ حجم الدعم لمواد الطاقة حوالي 13 مليار دولار أي 7% من الناتج المحلي الإجمالي و76% من العوائد السنوية لصادرات الحديد, الأمر الذي يفسر وجود نسب تضخمية معتدلة.
ونجمت معدلات البطالة والتضخم عن إجراءات حكومية لا يمكن الاستمرار بها تحت الضغوط الاقتصادية الحالية. ولم تقد إلى سياسة مستقرة في فترة ارتفاع النمو.
قاد انخفاض الإيرادات العامة وارتفاع النفقات العامة إلى عجز مالي بلغ أكثر من عشرة مليارات دولار في عام 2013 أي 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تستطع الحكومة تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي الذي وضع نسبة عليا مستهدفة للعجز قدرها 3.5%.
ولمواجهة هذا العجز اضطرت الحكومة إلى زيادة الكتلة النقدية فانخفضت القيمة التعادلية للعملة المحلية من 5.0 غريفينات للدولار الواحد في عام 2007 إلى 12.6 غريفينا في مطلع أبريل/نيسان 2014.
"
توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل بولندا وسلوفاكيا عام 2004 ورومانيا عام 2007 أدى إلى التأثير سلبياً على الصادرات الأوكرانية
"
كما لجأت إلى القروض المحلية فارتفعت ديونها الداخلية لتصل في عام 2013 إلى 41.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
وحتى لا تتدهور العملة الأوكرانية بنسبة أعلى قامت السلطات النقدية ببيع العملة الحرة في السوق مما أفضى إلى هبوط سريع للاحتياطيات النقدية الموجودة لدى البنك الوطني الأوكراني (المصرف المركزي) حيث انتقل حجمها من 32.4 مليار دولار عام 2007 إلى 18.5 مليار دولار عام 2013، أي إن قدرة الدولة على الدفع هبطت بشدة فهربت رؤوس الأموال الأجنبية التي لم تعد تشكل سوى 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما النتيجة الثانية للأزمة فهي تردي الصادرات الأوكرانية وحدوث عجز مزمن في الميزان التجاري.
الجدير بالذكر أن توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل بولندا وسلوفاكيا عام 2004 ورومانيا عام 2007 أدى إلى التأثير سلبياً على الصادرات الأوكرانية.
وقد أفضى انضمام هذه البلدان الثلاثة المجاورة لأوكرانيا والمتشابهة من حيث منتجاتها إلى إلغاء القيود الكمية التي كانت مفروضة عليها، وهكذا ارتفعت صادراتها على حساب الصادرات الأوكرانية. وقدرت بعض الأجهزة الخسائر التجارية الأوكرانية بسبب هذا الانضمام بنسبة 10%.
وبحسب إحصاءات منظمة التجارة العالمية, فقد بلغت قيمة الصادرات الكلية لأوكرانيا (السلع والخدمات) 88 مليار دولار في عام 2012. في حين وصلت وارداتها الكلية إلى 99 مليار دولار.
أضف إلى هذا العجز تراجع الاستثمارات الأجنبية وضعف الاستثمارات الأوكرانية في الخارج. وفي النتيجة النهائية أصبح ميزان المدفوعات في حالة عجز مزمن وصل إلى حوالي 14 مليار دولار في عام 2013 أي 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولم يجد الأوكرانيون بداً من اللجوء إلى القروض الخارجية لإعادة التوازن إلى هذا الميزان فتفاقمت أزمة الديون الخارجية. ففي عام 1999 كان حجم هذه الديون لا يتعدى ثمانية مليارات دولار أي 27.8% من الناتج المحلي الإجمالي ولم تثر خدمتها (الأقساط والفوائد السنوية المستحقة) مشكلة كبيرة. ثم ارتفع ليصل في عام 2012 إلى 135 مليار دولار أي 76.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وباتت خدمتها غير ممكنة فانهارت مقدرة الدولة على الدفع.
في عام 2014 يتعين دفع حوالي ثمانية مليارات دولار أي ما يعادل 71% من الاحتياطيات النقدية. وفي عام 2015 سترتفع خدمة الديون الخارجية إلى 14.5 مليار دولار أي 129% من الاحتياطيات النقدية. في حين لم تكن تتجاوز 10% منها في عام 2007.
وتزداد الأمور تعقيداً إذا علما بأن أوكرانيا احتلت في عام 2013 المرتبة العالمية رقم 144 (من مجموع 177 دولة) في ميدان حسن السياسة المالية والإدارية وفق معايير رابطة الشفافية الدولية.
لقد أوضحت التجربة العراقية بما لا يقبل الشك أن تفشي الرشاوى في مفاصل الدولة يسهم بفاعلية في تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية والأمنية رغم تحقيق فوائض في الميزانية العامة وفي ميزان المدفوعات. فكيف الحال بدولة كأوكرانيا التي تعاني من فساد إداري ومالي ومن عجز جميع الموازين الداخلية والخارجية؟
تدل هذه المؤشرات بوضوح على أزمة مالية عميقة لا يمكن معالجتها إلا بإصلاحات واسعة ومنح المساعدات بشكل هبات وقروض وإلغاء الديون. لكن هذا الحل يخضع لاعتبارات سياسية سواء تعلق الأمر بروسيا أم بالاتحاد الأوروبي.
تردي العلاقات المالية مع روسيا
على إثر التطورات السياسية الأخيرة لن يقتصر الرد الروسي على توقف المساعدات بل سيشمل أيضاً وفي القريب العاجل قرارات أخرى تؤثر بصورة مباشرة وسلبية على مالية أوكرانيا.
- الكف عن بيع الغاز الطبيعي بأسعار تفضيلية: بموجب اتفاق بين الطرفين عقد في 21 أبريل/نيسان 2010 مدته 25 سنة تم تمديد الموافقة الأوكرانية على وجود قواعد عسكرية للأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم. مقابل هذه الموافقة تحصل أوكرانيا على غاز طبيعي من روسيا للاستهلاك المحلي بسعر يقل بنسبة 30% مقارنة بالأسعار العالمية.
"
على إثر التطورات السياسية الأخيرة لن يقتصر الرد الروسي على توقف المساعدات بل سيشمل أيضاً وفي القريب العاجل قرارات أخرى تؤثر بصورة مباشرة وسلبية على مالية أوكرانيا
"
ستقوم روسيا بإلغاء هذا الاتفاق، وستكون من الناحية المبدئية أمام خيارين: أولهما التنازل عن قواعدها العسكرية في شبه الجزيرة، الأمر الذي يقود إلى إلغاء السعر التفضيلي، وهذا ينسجم مع المبادئ القانونية العامة. وثانيهما ضم شبه الجزيرة إليها، عندئذ تحتفظ بقواعدها العسكرية وتلغي السعر التفضيلي في آن واحد.
ستلجأ موسكو قريباً جداً إلى الخيار الثاني الذي ينسجم مع مطالبتها بروسية شبه الجزيرة منذ حصول أوكرانيا على استقلالها عام 1991.
وهكذا سترتفع الالتزامات المالية الأوكرانية خاصة إذا علمنا بأن الحكومة الروسية وعن طريق شركتها غازبروم قررت في ديسمبر/كانون الأول 2013 منح تخفيض ثان لسعر الغاز المبيع لأوكرانيا للمساهمة في معالجة أزمتها. وفي مطلع مارس/آذار 2014 قررت الشركة إلغاء هذا التخفيض اعتباراً من أبريل/نيسان المقبل.
- المطالبة الملحة بسداد فاتورة الغاز الطبيعي: في نهاية التسعينيات من القرن المنصرم باعت غازبروم كمية من الغاز الطبيعي لأوكرانيا بمبلغ 1267 مليون دولار ولم يتم سداد هذا المبلغ. وفي الفترة العصيبة الحالية تطالب الشركة الروسية بدفع هذا المبلغ إضافة إلى متأخرات قدرتها الشركة بمبلغ 614 مليون دولار.
- عرقلة التبادل التجاري: صرحت الحكومة الروسية بأنها ستقدم على زيادة أسعار الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع المستوردة من أوكرانيا إذا انضمت الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي.
ويمكن إبداء ملاحظتين حول هذا الإجراء: الملاحظة الأولى أنه خطير من الناحية المالية لأنه يمس ربع الصادرات الأوكرانية الكلية. والملاحظة الثانية أنه ممنوع بموجب الاتفاقات المتعددة الأطراف لمنظمة التجارة العالمية. وبما أن الطرفين يتمتعان بعضوية المنظمة لذلك يجوز لأوكرانيا رفع شكوى ضد هذا الإجراء أمام جهاز فض المنازعات التابع للمنظمة بغية حذفه أو الحصول على امتيازات تعويضية.
لكن كسب هذه الدعوى ليس سهلاً لأن روسيا لن تعتبر زيادة الأسعار الجمركية بمثابة عقوبة تجارية ضد أوكرانيا وقعت لأسباب سياسية بل وسيلة للدفاع عن صناعاتها بمنع تدفق البضائع الأوروبية إلى السوق الروسية عبر البوابة الأوكرانية. كما أن السلع المستوردة من أوكرانيا ستعتبر أوروبية حتى وإن صنعت بالكامل في أوكرانيا. وبالتالي يحق لروسيا زيادة أسعار الرسوم الجمركية المفروضة عليها شريطة أن تكون مساوية للأسعار الجمركية السارية على السلع المماثلة المستوردة من دول أوروبية أخرى.
نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
في عام 1998 دخل اتفاق الشراكة والتعاون بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا حيز التنفيذ. وهو يتناول مختلف الجوانب الاقتصادية وينص في مادته الرابعة على إقامة منطقة تجارة حرة بين الطرفين حال تحقيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة في أوكرانيا.
في إطار هذا الاتفاق وتطبيقاً لسياسة الجوار الأوروبية منح الاتحاد الأوروبي عدة مساعدات مالية إلى أوكرانيا منها مساعدة بمبلغ 500 مليون يورو في عام 2009 أي بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية بسنة واحدة. خصص هذا المبلغ لسد عجز الميزانية العامة وميزان المدفوعات. وبلغ المجموع التراكمي للمساعدات الأوروبية 2.5 مليار يورو خلال الفترة بين 1991 ونهاية عام 2013.
"
تمثل أوكرانيا مصلحة سياسية واقتصادية لأوروبا وبالتالي سوف تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب وسيقود هذا الانتماء بالضرورة إلى انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي
"
وفي 5 مارس/آذار 2014 قرر الاتحاد الأوروبي المساهمة بفاعلية في معالجة الأزمة المالية الأوكرانية المتفاقمة خاصة بعد أن جمدت روسيا مساعداتها فمنح 11 مليار يورو منها 1.4 مليار يورو هبة, و9.6 مليارات يورو بشكل قروض.
ويلاحظ أن هذه المساعدة تندرج ضمن خطة واسعة النطاق تشترك فيها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. كما جاءت بعد التغييرات السياسية الأخيرة. ويبدو أن هذه الخطة لم تعر أي اهتمام لتقديرات وزير المالية في الحكومة الأوكرانية المؤقتة الذي صرح بأن البلد يحتاج إلى 35 مليار دولار خلال السنتين المقبلتين. اعتبر الأوروبيون هذه التقديرات غير دقيقة ومبالغا فيها.
لكن العلاقة الأوروبية الأوكرانية لن تتوقف عند المساعدات لأن معاهدة ماسترخت التي تأسس بموجبها الاتحاد الأوروبي تسمح لأية دولة أوروبية بما فيها أوكرانيا تقديم طلب الانتماء إلى الاتحاد.
وقد نصت اتفاقية كوبنهاغن لعام 1993 المعدلة باتفاقية مدريد لعام 1995 على شروط الانضمام وهي سياسية (احترام حقوق الإنسان وتأمين دولة القانون والاعتماد على الديمقراطية) واقتصادية متمثلة ببناء اقتصاد السوق الذي يعني فيما يخص أوكرانيا إصلاحات واسعة في مقدمتها خصخصة الشركات التابعة للقطاع العام.
ويرى الأوروبيون أن هذه الشروط غير متوفرة حالياً في أوكرانيا. لكنهم مقتنعون بأن المصالح الاقتصادية والإستراتيجية الأوروبية تقتضي ترطيب هذه الشروط خاصة في المرحلة الراهنة. وبالتالي فهم يشددون على هذه الشروط لإبعاد من لا يرغبون بانضمامه إلى الاتحاد كما حدث مع تركيا. بل إنهم استخدموها حتى في عرقلة قيام منطقة تجارة حرة وهذا ما حدث مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وتمثل أوكرانيا مصلحة سياسية واقتصادية لأوروبا وبالتالي سوف تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب. وسيقود هذا الانتماء بالضرورة إلى انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي حالها في ذلك حال دول الاتحاد السوفياتي سابقاً الأعضاء حالياً في الاتحاد الأوروبي. عندئذ ستدخل مالية أوكرانيا في مرحلة جديدة لأن الاتحاد الأوروبي سيدافع عن مصالحها التجارية ولأن الناتو سيدافع عن سيادتها.
لكن هذا التطور لن يعالج الأزمة المالية الأوكرانية إلا إذا اقترن بإجراءات أخرى تخص الديون الخارجية. وقد تنبهت المفوضية الأوروبية إلى أهمية هذا الموضوع وخطورته على مالية البلد فقررت قبل بضعة أيام استعدادها دفع الديون المتعلقة بالغاز المستحقة لروسيا على أوكرانيا التي سبقت الإشارة إليها.
إلغاء الديون الخارجية خطوة مستقبلية
لقد دلت التجارب على أن إلغاء الديون هو الحل الأمثل لإعطاء نفس جديد لمالية الدولة المختنقة. وسيعتمد هذا الإلغاء على عوامل سياسية على غرار ما حدث لدول أخرى.
فعند مراجعة البيان الاقتصادي الختامي لمؤتمر الدول السبع الكبرى المنعقد بلندن في تموز 1991 يتبين أن التسهيلات المالية الممنوحة لبولندا ومصر وكذلك إلغاء التزاماتهما المالية كانت لأسباب سياسية بحتة تتمثل بتعزيز انسلاخ بولندا عن الكتلة الشرقية ومساندتها مقابل الاتحاد السوفياتي السابق وبمكافأة مصر عن دورها في الحرب ضد العراق على إثر احتلال الكويت. ناهيك عن أمثلة أخرى للإعفاءات من الديون لأسباب سياسية وفي مقدمتها ديون العراق بعد احتلاله من قبل الولايات المتحدة.
لكن الدائن الرئيس لأوكرانيا هي روسيا التي ستعارض بطبيعة الحال أية خطوة من هذا القبيل.
لذلك سوف يفرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات اقتصادية ضد روسيا حال ضم شبه جزيرة القرم إليها. وسيدخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى في مفاوضات في إطار نادي باريس لإلغاء الديون المترتبة على أوكرانيا مقابل حذف هذه العقوبات، علماً بأن قسطاً لا يستهان به من الديون الخارجية الأوكرانية ناجم عن قروض من مصادر مصرفية أجنبية وغير مضمونة من قبل الحكومة. وبالتالي سيختص نادي لندن بالنظر فيها.
ومن حيث التداعيات الاقتصادية لن يضيف هذا الإلغاء عبئاً جديداً على مالية الدولة الأوكرانية. لأن الشروط الاقتصادية للإلغاء المتمثلة بالإصلاح المالي هي بالضبط نفس الشروط المفروضة حالياً والناجمة عن منح المساعدات الأوروبية والأميركية والدولية. تتجلى هذه الشروط بتخفيف ثم حذف التعضيد الممنوح لمختلف أنواع الطاقة وزيادة الضرائب خاصة الضريبة على القيمة المضافة ومعالجة التهرب الضريبي وتقليص الوظائف الحكومية وتخصيص الشركات التابعة للدولة بما فيها مصانع الحديد.
والواقع أن هذه الشروط ليست جديدة بل سبق لصندوق النقد الدولي أن فرضها على أوكرانيا في السنوات الماضية. لكن كييف لم تلتزم بها، الأمر الذي أدى إلى تردي العلاقة مع الصندوق وإلى تعليق مساعداته لها. بيد أن استفحال الأزمة الاقتصادية وتفاقم المشاكل المالية وتخلي روسيا عن مساعداتها ستقود هذه المرة وتحت ضغوط أوروبية وأميركية إلى استجابة الحكومة الأوكرانية لهذه الشروط التي ستحسن الوضع المالي للدولة لكنها ستفضي بالضرورة إلى ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وبالتالي إلى استياء شعبي جديد.
إن الوزن الثقيل للأزمة المالية في أوكرانيا يشير إلى أن معالجتها ستستغرق وقتاً طويلاً حتى وإن انضمت إلى الاتحاد الأوروبي. ومما يزيد الأمر تعقيداً دور موسكو في تفاقم الأزمة لأن روسيا تعتبر هذا الانضمام خسارة كبرى نظراً لأهمية أوكرانيا لدى الروس التي لا تقتصر على الاعتبارات الاقتصادية والإستراتيجية بل تشمل أيضا الجوانب الاجتماعية. إنها مهد الثقافة الروسية وكانت تسمى روسيا الصغرى.
يقول لينين "إذا فقدت روسيا أوكرانيا فإنها سوف تفقد رأسها". لكن أوكرانيا قررت التحرر من القيود الروسية وإقامة علاقات اقتصادية واسعة مع الاتحاد الأوروبي دون أن تتنازل عن مبادلاتها التجارية مع روسيا. ألم يقل فولتير "أوكرانيا تصبو دائماً إلى الحرية".
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews