لرؤية الاستراتيجية والأزمة الاقتصادية
تشترك الحكومة مع خبراء الاقتصاد في تحديد أعراض الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر الآن, وربما يشترك الطرفان في تشخيص هذه الأزمة بأنها أزمة سياسية بمعني أن أسبابها سياسية وعلاجها في صيدلية السياسة- إن صح التعبير.
برغم ذلك يختلف الطرفان في وصف العلاج; ففي حين تذهب الحكومة إلي أن الاقتراض من الخارج والصكوك هما الحل, يقدم الخبراء روشتة مختلفة, والحقيقة أن روشتة الخبراء أكثر وفاية وأكثر واقعية وأكثر ملائمة ومن ثم أنجع وأنجح. وفي كل الأحوال قد نتفق علي أهمية الحلول العاجلة والسريعة, والتي هي بمثابة إسعافات أولية في هذه الحالة, لكن حتي يكون لهذه الحلول جدواها لابد من مراعاة اعتبارين: أولهما هو ألا يقتصر الأمر علي الإسعافات الأولية وحدها وإنما لابد من رؤية ممتدة لعلاج المرض من جذوره. وثانيهما هو أن تكون هذه الحلول العاجلة مناسبة فعلا لأسباب المرض.
أعتقد أن هناك مستويين للأزمة; أحدهما حاصل بفعل ظروف طارئة بعد الثورة مثل غياب الأمن وعدم الاستقرار السياسي, وحالة الغموض فيما يخص المستقبل, وارتفاع سقف المطالب وانفلات الأسواق, وهي أمور لها تداعياتها علي الاستثمار والسياحة وعلي معدلات الإنتاج إذا كانت له معدلات مازالت باقية. وثانيهما يتمثل في العوامل الهيكلية الكامنة في بنية الاقتصاد المصري; والتي تعني أن هناك خللا في هيكل الاقتصاد لن تفلح معه الحلول قصيرة الأجل. وأعتقد كذلك أن كلا المستويين يجوز أن يوصف بأنه قضية سياسية وأنهما تعبير عن علاقة مختلة بين الاقتصاد والسياسة, وأنهما يشكلان فصلا أساسيا في تطبيقات علم الاقتصاد السياسي.
وأكثر ما يلفت الانتباه فيما يتعلق بالعوامل الهيكلية أنه لاتوجد هوية واضحة ومحددة للاقتصاد المصري, لا في الدستور ولا في سياسات الحكومة علي ما يبدو. قد يكون عدم تحديد هوية للاقتصاد في الدستور أمرا محمودا لدواعي المرونة; لكن بشرط توافر رؤية استراتيجية مستقرة تعين علي معرفة التوجهات الأساسية, وتبعث علي الثقة في المستقبل والاطمئنان لما سوف تضخه الحكومة من سياسات في الأيام والسنوات المقبلة, وهذا هو ما لم يتحقق, ولايبدو أننا في سبيل تحقيقه; فنحن إزاء حالة من العشوائية والتخبط أدعي إلي هروب المستثمر أو إحجامه عن الاستثمار, وأدعي إلي اضطراب سلوك المنتج والمستهلك, ولاشك في أن اضطراب سلوك أطراف المعادلة الاقتصادية يسقطها برمتها..... إن عدم معرفة هوية الاقتصاد في الوقت الراهن هي علته الكبري, وهي قضية سياسية بالدرجة الأولي.
ثمة علل أخري كثيرة- أظنها مزمنة- من النوع نفسه لايتسع المجال لحصرها; منها أن لدينا ثلاثة اقتصادات: لدينا الاقتصاد الرسمي( المسجل) والذي يعمل تحت سمع الحكومة وبصرها, وعلي أساسه تبني مؤشراتها. ولدينا الاقتصاد غير الرسمي أو العشوائي كالأرض والثروة الحيوانية غير المسجلة وجزء كبير من النشاط التجاري وقسم من مشروعات إنتاج السلع والخدمات وأدواتهما, ثم لدينا الاقتصاد الخفي أو السري والذي يتمثل في الأموال المنهوبة والسرقات والرشاوي وعائد الغش التجاري وتجارة الممنوعات والتهريب... وغير ذلك من صور النشاط الاقتصادي غير المشروعة. والمشكلة أن الاقتصادين العشوائي والسري كبيران, وأنهما خارج نطاق الحسابات الرسمية, كما أنهما بعيدان عن حدود سيطرة الدولة مما يجعل مسألة بناء المؤشرات محل شك.. لاأقول أن اقتصادنا أفضل أو أسوأ حالا مما تبديه هذه المؤشرات; ولكن أقول فقط أنها- أي المؤشرات- ليست معبرة عن واقع الاقتصاد بشكل دقيق.
والمشكلة أيضا أن سياسات إصلاح الاقتصاد تنخفض جدواها بقدر ما يزيد هذا الجزء الغاطس من الاقتصاد. وتزداد المشكلة تعقيدا مع حالتين: الحالة الأولي إذا مافهمنا أن جزءا من الاقتصاد الرسمي ينزلق- أو انزلق بالفعل- إلي مستنقع الاقتصاد الخفي أو إلي حضيض الاقتصاد العشوائي. والحالة الثانية إذا ماصحت الأنباء المتواترة عن أن للقوات المسلحة اقتصادها( المستقل), وأن لجماعة الإخوان المسلمين اقتصادها( الخفي أو الهارب) مع التحفظ الشديد إزاء دقة المعلومات.
كذلك يعد إهدار الموارد من أكبر آفات الاقتصاد المصري, إلي الحد الذي يجوز معه القول إن أكبر عائد للتنمية الاقتصادية في مصر يكمن في عملية ترشيد استخدام الموارد. وصور الإهدار عديدة كما أنها متنوعة; بداية من إهدار الثروة البشرية( القدرات التشغيلية والإنتاجية والإبداعية) ثم إهدار الموارد الطبيعية كالمياه والتربة والثروة التعدينية... إلي الإهدار في عمليات إنتاج السلع والخدمات( يقدر البعض الفاقد في المنتجات الزراعية بنحو25% من إجمالي الناتج وهو مايساوي ربع المساحة المزروعة).
والأسباب متنوعة: منها السياسات المتبعة ومنها منظومة القوانين ومنها المعوقات الإدارية, ومنها السلوك العام ومنها الكوارث ومرة أخري ومع تنوع الأسباب نستطيع أن نضعها جميعها في سلة ز السياسة ز. يرتبط بذلك عنصر الفساد, ولاسيما ذلك الذي تم تقنينه في العهد البائد وأصبح بنيويا: هذه العلل البنيوية تضفي علي الحلول صبغة التناقض وتجعل منها معادلات صعبة, ولضيق المجال أذكر مثالا واحدا; فالتعويل علي جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لإقالة الاقتصاد من عثرته يصطدم بكثير من العقبات.. يصطدم أولا بحالة الغموض, ليس فقط بسبب غياب الأمن إو عدم الاستقرار السياسي وإنما بهذا الغموض الناجم عن عدم معرفة التوجهات الأساسية التي تحكم السياسة الاقتصادية في مجملها. ويصطدم كذلك بخوف المستثمر جراء مساءلة هؤلاء الذين نهبوا الأموال أو أبرموا عقودا مشبوهة مع الحكومات السابقة, ولاشك في أن محاسبتهم تمثل ضريبة ثورية بمثل ماهي ضرورة اقتصادية لايمكن التجاوز عنها.
ويصطدم أيضا بحقيقة ضعف جدوي الاستثمار الخارجي في مصر, كما أشارت إليه السوابق. ومعني ذلك أنه مالم تكن هناك رؤية متكاملة لأوضاعنا الاقتصادية سوف يكون من الصعب أن نتوقع نجاح الحلول المطروحة.
( المصدر : الأهرام المصرية )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews