الموازنة الرديئة تفوّت فرصة الإصلاح الاقتصادي

كتبت في وقت مبكر من هذه السنة، أن ماريو مونتي كان الشخص الخطأ لقيادة إيطاليا. وقد تبين الآن أن رئيس الوزراء الإيطالي السابق هذا لن يكون قادراً حتى على إدارة حزبه السياسي الوسط، وهو الحزب الصغير الذي أسسه بنفسه، قبل ما يقل عن عام مضى. استقال ماريو الأسبوع الماضي من رئاسة "الخيار المدني"، بعد خلاف على قراره بانتقاد موازنة إيطاليا لعام 2014، كما ترك مجموعة الحزب في مجلس الشيوخ، الذي يعتبر المجلس الأعلى في إيطاليا. استسلم مونتي في لحظة من لحظات الفوضى والاضطراب في السياسات الإيطالية، بكل ما فيها من منافسات ومؤامرات واتخاذ المواقف المزايدة.

تُعتبر حكاية انهيار وسقوط المفوض الأوروبي السابق حكاية تحذيرية من الصعود المفاجئ لدخيل على مجال السلطة، والأهم من ذلك أنها تحذير من فقدان الأمل بحدوث إصلاحات اقتصادية في إيطاليا. كان مونتي محقاً في انتقاده الأساسي للموازنة التي اقترحها الائتلاف الحاكم، الذي يشكل الخيار المدني عضواً من أعضائه. أعادت الموازنة خلط مبالغ ضئيلة من الإنفاق وجباية الضرائب. وضيّعت فرصة كبيرة لإجراء إصلاحات اقتصادية. كان العنوان الرئيسي في موازنة إيطاليا لعام 2014 هو التخفيض الرمزي في "إسفين ضريبة" العمالة البالغ 2.5 مليار يورو، وهو الفرق بين تكلفة العمالة على صاحب العمل وصافي رواتب العمال، أو الفرق في حساب الأجور قبل وبعد استيفاء الضرائب عليها. هذا معيار للتنافسية، وهو مجال حققت فيه إيطاليا نتائج ضعيفة. ولكي تُغلق إيطاليا الفجوة بينها وبين ألمانيا في هذا المجال، على الحكومة الإيطالية أن تقلل من إسفين الضرائب المذكور 20 مرة، قدر التخفيض المقترح الآن. يقع تقليص الضريبة على العمالة في رأس قائمة كل أجندة إصلاح تقريباً. ولذلك، هناك حاجة لإجراء تغييرات واسعة في أولويات الإنفاق وجباية الضرائب. أنا لست إلى جانب توفير أموال للاستثمار من خلال تخفيض الضرائب، ولكن إذا حصرت نفسك في اتحاد نقدي يضم ألمانيا المُنافسة، يُصبح من الصعب عليك الإبقاء على مستويات الضرائب العالية على العمالة. يُمكن أن تجد طريقة لتحقيق ذلك، وهي تعديل ألمانيا نفسها وفقاً لمصالحك، وهو حلم بعيد المنال، والأصح هو أن عليك أن تُعدل نفسك مقابل ألمانيا. رئيس الوزراء الإيطالي الحالي إنريكو ليتا، ووزير المالية فابريزيو ساكوماني، مثلهما مثل مونتي، على وعي تام بما يجب عمله في هذا الشأن. ولكنهم يواجهون قيوداً شديدة. ينتمي الديمقراطيون في حزب ليتا إلى واحد من آخر الأحزاب الاجتماعية تأثراً بالتطورات في البلاد. وهو يدعم موقف رئيس الوزراء في تصميمه على البقاء ضمن التكليف المفروض من الاتحاد الأوروبي، بإبقاء نسبة العجز في حدود 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكنه يعارض في نفس الوقت التغيرات اللازمة لتحرير الموارد لإحداث استقطاعات في الضرائب. وفي أثناء ذلك، يُعارض حزب يمين الوسط لسيلفيو بيرلسكوني، حزب شعب الحرية، وهو عضو آخر من أعضاء الائتلاف الحاكم، أي زيادات على ضرائب الثروة والأملاك والاستهلاك. إذا عارض أحد الشركاء في الائتلاف الحكومي استقطاعات في الإنفاق، وعارض شريك آخر الزيادة في الضرائب، يصبح هامش المناورة في إقرار الموازنة قريباً من الصفر. ولتمويل الاستقطاعات الكبيرة في ضرائب العمالة، على ليتا أن يستقطع جزءا من نفقات الحكومة الإقليمية. ولتحقيق ذلك، عليه بيع مرافق المنافع العامة غير الفعالة، التي غدا كثير منها مأوى للساسة الذين عفا عليهم الزمن. ستكون المكاسب الرئيسية المتأتية من خصخصة هذه المنافع، ليست المال الذي ستجلبه فحسب، بل أيضاً مكاسب الكفاءة التي ستجلبها. وفي المدى القصير، يجب أن تكون أكثر الإجراءات أهميةً التي يجب اتخاذها هي تنظيف المصارف، التي لا ترغب في الوقت الحالي في إقراض أموال للقطاع الخاص. أنا غير متأكد من أن أياً من هذه الإجراءات ممكن سياسياً داخل حدود الأهداف المالية للاتحاد الأوروبي. حتى الحكومة الألمانية أجبرت على خرق القواعد، عندما بدأت في عام 2003 برنامجها الإصلاحي الأكثر اعتدالاً من ذلك بكثير. لا تتوقعوا نفس الشيء من إيطاليا. إذ بدل أن تقبل بخرق القواعد المالية كثمن لتنفيذ الإصلاحات، اختارت روما طريق التهاون في مجال المالية العامة، وبدون إصلاحات. وحيث إنه لا توجد آفاق للنمو، تصبح الطريقة الوحيدة أمام الحكومة للوصول إلى أهدافها المالية، هي من خلال مزيج سام مكون من التقشف وعمليات محاسبية خادعة ومضللة، مثل استخدام إجراءات تتعلق بالعائدات لمرة واحدة فقط، لتمويل نفقاتها الدائمة. ستشهد الأشهر المقبلة كثيرا من التعديلات على الموازنة، ولن يكون الهدف منها تحسين نوعيتها، ولكن لرعاية مصالح خاصة. ربما يبحث الصقور في حزب شعب الحرية عن أعذار لترك الحكومة تفشل في ذلك. ولكن هل ستفيد أي انتخابات جديدة في ذلك؟ تبيّن خبرة مونتي أن الإصلاحيين في إيطاليا، لا يفوزون بالضرورة بالانتخابات. وفي هذه الأثناء، ينشغل يمين الوسط حالياً في تأمل طبيعة الحياة بعد خروج بيرلسكوني المؤكد بصورة متزايدة من الحياة السياسية، وحزب شعب الحرية ليس إصلاحياً أيضاً. إنه أكثر الأحزاب اهتماماً بالمصالح الخاصة.

يكمن أفضل أمل في ماتيو رينزي، عمدة فلورنسا، البالغ من العمر 38 عاماً، والذي يعدّ السياسي الكبير الوحيد الذي يحظى بفرصة ليتم انتخابه، والذي يستعرض بقدر من الوضوح ما تحتاج إيطاليا لعمله، مثل فرض استقطاعات أكبر في الإسفين الضريبي. ربما يتولى رينزي خلال فترة قريبة رئاسة الديمقراطيين. وستكون أول مهمة له هي أن يجمع حزباً متردداً حول أجندته، وهي مهمة تقع على نطاق مماثل للنطاق الذي واجهه زعماء متتابعون في حزب العمال البريطاني، في الثمانينيات والتسعينيات. نعرف أن مثل هذه التحولات تأخذ وقتاً طويلاً. ولكن إيطاليا لا تمتلك مثل ذلك الوقت. خيار المؤسسة الإيطالية المتسم بعدم الإصلاح وعدم الإعسار، والبقاء في منطقة اليورو يتعارض مع ذلك. كان ذلك أكبر فشل للمؤسسة السياسية الإيطالية، وما زاد ذلك الأمر وضوحاً هو الدور الذي لعبه مونتي، كنمط للسياسي الإيطالي.

( فايننشل تايمز 29/10/2013 )