الأزمة المصرية والتخبط الأميركي
ليس هناك توصيفٌ للسياسة الأميركية في المنطقة العربية خلال الأعوام الأخيرة أدق من كلمة التخبط.
فبعد خمسين عاماً من التحالف الاستراتيجي مع الأنظمة العربية الدكتاتورية، تغيّر المزاج الأميركي مع مجيء الرئيس باراك أوباما وتغيير الاستراتيجية القتالية التي أعطت الأولوية للانسحاب من العراق وأفغانستان، توفيراً للخسائر المادية والبشرية.
الربيع العربي فاجأ أوباما مع نهاية فترته الأولى، وقد شاهدنا ارتباك سياساته وطريقة تعاطيه مع هذه الأحداث. فالمؤكد أن أوباما لم يأتِ مبشّراً بيوريتانياً لإدخال الديمقراطية للبلدان المتخلفة، وإنّما جاء ليحافظ على مصالح بلده وتحسين شروط تعاقداتها مع العالم.
لقد بدأ أوباما يتعامل مع دول الربيع العربي بطريقة «القطعة»، حيث تحكمها المصلحة الأميركية العليا. وفي الوقت الذي تولى الإعلام الترويج لنظرية المؤامرة، باتهام أميركا بإشعال أحداث الربيع العربي، إلا أن المتتبع للأمر يكتشف أن أميركا قد فاجأتها الأحداث كما فاجأت حلفاءها وأعداءها معاً. فبعد نصف قرن من الجمود السياسي وانحسار الجماهير عن الميادين العربية، عادت فجأةً بالملايين لتملأ الساحات، مع طرح الشعارات الكبرى التي ستمثل عناوين المرحلة لسنوات قادمة: الحرية والكرامة والعيش الكريم.
الربيع العربي لم ينطلق إذاً بصفارة أميركية، ولم يأخذ أذناً من هذه العاصمة أو تلك، وإنّما تحرّكت الجماهير غضباً لكرامتها المهدورة واستعادةً لحقوقها وحرياتها المصادَرة. وهي حركةٌ فاجأت السادة الأميركيين وأربكت حساباتهم، وقد شاهدنا ذلك أوضح ما يكون في تعاطيهم المضطرب مع ثورة مصر. فحتى قبل أسبوعٍ من سقوط حليفهم القديم حسني مبارك، كانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تؤكّد على ضرورة بقائه حتى إنهاء ولايته الرئاسية في 2014. الأحداث المتسارعة أسقطت هذا الخيار ودفعت به إلى السجن.
الحسابات التالية كانت مع الاخوان المسلمين، حيث آمن الأميركيون إيماناً لاهوتياً أن هذه الحقبة هي حقبة الاخوان بلا منازع. وبالتالي بدأ نسج العلاقات وبناء التفاهمات، يمدّهم في ذلك الموقف التركي الذي استند على تجربة تمثل أنموذجاً يُحتذى لما يسمى بـ «الاسلام المعتدل». هذا النموذج تضعضع بفعل عاملين: التورط في الأزمة التركية، واحتجاجات ميدان «تقسيم».
اليوم، تدخل الولايات المتحدة طوراً جديداً من التخبط مع تطورات الأزمة في مصر، بإعلان وزير خارجيتها جون كيري أن ما جرى (من انقلاب) إنّما كان «لاستعادة الديمقراطية»! وتبع ذلك إعلان البنتاغون أن القائد العام للقوات المسلحة (عبد الفتاح السيسي) أبلغ وزير الدفاع الأميركي أمس (السبت) أن القيادة المصرية الجديدة تعمل من أجل تحقيق مصالحة سياسية في أعقاب عزل الجيش لمرسي.
أصدقاء الولايات المتحدة اليوم لا يثقون بها، حيث يتعمق الشعور بتخليها عنهم، وتقصيرها في حمايتهم، وآخر ما رشح من تنهدات كانت للفريق السيسي، الذي اتهم مؤخراً إدارة أوباما بعدم تقديم الدعم المناسب: «لقد تخليتم عن المصريين. أدرتم ظهوركم للمصريين ولن ينسوا ذلك، وتريدون الآن الاستمرار في تخليكم عنهم؟». لم يكمل فخامته شهراً في الحكم، ويلوم أميركا بالتخلي عنه!
اليوم يكمل أنصار مرسي الاعتصام والتظاهر من أجل إعادته للرئاسة، مستخدمين أدوات الاحتجاج نفسها التي استخدمها مناوئوهم للإطاحة بحكمهم. الجيش العائد للإمساك بالسلطة يزداد توتراً، و«الداخلية» تزيد تهديداتها لفض اعتصاماتهم بالقوة.
المؤسف في الصورة كلها، أن مصر تبتعد أكثر وأكثر عن إرساء أسس وقواعد الدولة المدنية، التي ضاعت بين غباء الاخوان السياسي، وفرعنة الجيش، وتكالب مناوئيهم غير الاسلاميين للوصول إلى السلطة حتى برتبة ذيل للعسكر.
( المصدر : الوسط البحرينية 4/8/2013)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews