الصناعة المصرية والخروج من الأزمة
يلاحظ المتتبع للمجتمع المصرى عموما والاقتصاد على وجه الخصوص، ان الاهتمام بالقطاعات السلعية الإنتاجية، خاصة الصناعة والزراعة، قد توارى جانبا لصالح الاهتمام بالقطاعات الخدمية وسوق المال والموضوعات المرتبطة بهما،
وخير دليل على ذلك هو الكم الهائل من الدراسات التى قام بها طلاب الدراسات العليا فى الجامعات المصرية،خلال الفترة الحالية، عن هذه القطاعات، ولم تحظ القطاعات الإنتاجية الا بالنذر اليسير منها، وذلك على عكس ما كان يحدث فى العقود السابقة. ولهذا انشغل الفكر الاقتصادى فى معظمه بهذه القضايا وأهمل القطاعات الإنتاجية تماما، وارتفعت نبرة الحديث عن الاقتصاد الخدمى ودور الخدمات فى المجتمع. واختفى تماما الحديث عن الصناعة وأهميتها للمجتمع والاقتصاد.
ورغم أهمية الخدمات وحيويتها الا اننا نرى ان القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الصناعة تعد وبحق محور الانطلاق الرئيسى لاى مجتمع يرغب فى إحداث طفرة تنموية حقيقة،نظرًا للآثار الإيجابية الكثيرة والمتعددة لهذا القطاع وعلاقته التشابكية القوية مع العديد من القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى فى المجتمع، مثل قطاع الزراعة والسياحة والخدمات. علاوة على دوره فى تنمية التجارة الخارجية وتحسين الميزان التجارى بالبلاد، كما أن لديه قدرات هائلة على توفير فرص عمل كثيرة ومتنوعة،وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، ناهيك عن دوره فى نقل التكنولوجيا الحديثة وتحقيق الانتشار المكانى والتوازن الإقليمي.
وبالتالى تلعب الصناعة دورا مهما وحاسما فى عملية التنمية عموما وليس فقط الاقتصادية، من حيث قدرتها على توفير الاحتياجات الأساسية للسكان، وكذلك علاقتها التشابكية بين القطاعات المختلفة فى الاقتصاد، والقدرة على بناء قاعدة إنتاجية قوية تساعد على الانطلاق نحو تحقيق الأهداف التنموية للبلاد.
وتدلنا القراءة المتأنية للواقع المصرى على أن الصناعة لم تأخذ المكانة المستحقة فى الاهتمام والتركيز، ورغم الجهود المضنية والشاقة التى بذلها الوزير السابق المحترم منير فخرى عبد النور لتحقيق بعض هذه الأهداف إلا أنها لم تأت بالآمال المرجوة منها، وهو مآل أى تجربة أخرى فى ظل الأوضاع الموسسية القائمة حاليا، فوزير الصناعة لايملك من الأدوات والآليات مايمكنه من تحقيق الأهداف التنموية التى يصبو اليها لسبب بسيط للغاية يكمن فى تشتت الهيكل الانتاجى المصرى بين العديد من الوزارات، فالقلاع الصناعية الكبرى تخضع لوزير الاستثمار الذى بدوره لايضع هذه المسألة ضمن أولوياته الأولى وبالتالى غالبا ماتحتل مكانة متأخرة فى اهتماماته بحكم التخصص والمهام المطلوبة منه، اما باقى الصناعات فهى موزعة بين العديد من الوزارات، كالبترول والكهرباء والإسكان، وليس من ضمنها وزارة الصناعة. ولهذا لايبقى لوزير الصناعة سوى القطاع الخاص، وهو أيضا غالبا ما يرتبط ارتباطا وثيقا باتحاد الصناعات وليس بالوزارة، ومن هنا شلت يد وزير الصناعة تماما عن تطبيق أى إجراءات أو سياسات تنموية يهدف إلى تحقيقها.
ولذلك مازالت نسبة مساهمة الصناعة المصرية فى الناتج المحلى محدودة للغاية، بل وتتجه للانخفاض عاما بعد آخر. هذا فضلا عما تتصف به الصناعة التحويلية من قاعدة صناعية ضعيفة، مصحوبة بانخفاض فى الإنتاجية .بل والمشكلة الأكثر أهمية للصناعة المصرية تكمن فى كون القيمة المضافة منها مازالت تبنى على الموارد الطبيعية، وهو مالا يشجع على النمو الاقتصادى المرتفع. وتشير الإحصاءات إلى أن معدل نمو الصناعات التحويلية قد هبط من 8% عام 2007/2008 إلى نحو 2.3% عام 2012/2013، وذلك قبل ان يرتفع الى نحو 8.3% عام 2013/2014، وساهم فى الناتج المحلى الإجمالى بنحو 16.4%،ومن حيث العمالة، يستوعب قطاع الصناعات التحويلية 25.9% من إجمالى المشتغلين بالمنشآت الاقتصادية بإجمالى الجمهورية، حيث إنه من أكثر الأنشطة الاقتصادية استيعابًا للعمالة. وذلك وفقًا لنتائج التعداد الاقتصادى الأخير عام 2012/2013.
وعلى الجانب الآخر بلغت أعداد المنشآت الصناعية المسجلة فى مصر نحو 34 ألف منشأة بتكاليف استثمارية تناهز 626 مليار جنيه، وهذا بخلاف الورش الحرفية والمنشآت الصناعية غير المسجلة رسميًا. هذا وتعد صناعات الغزل والنسيج والملابس والجلود أكثر الصناعات استيعابًا للعمالة، تليها صناعات المواد الغذائية والمشروبات والتبغ.
عموما فقد أدى تراجع الاهتمام بالصناعة الى العديد من الآثار السلبية على الاقتصاد المصرى عموما وإصابته بحالة من الضَعف والوَهَن، انعكست على جميع المتغيّرات والمؤشرات الاقتصادية، وأدت الى تراجع وتدهور البنية الإنتاجية فى المجتمع عموماً ولدى شركات قطاع الأعمال العام والقطاع العام والخاص العاملة فى هذه المجالات على وجه الخصوص، مما انعكس بالسلب أيضا على معدلات الإنتاج والإنتاجية، بحيث أصبح الإنتاج المحلى لا يكفى لتغطية الاحتياجات المحلية، بل وأخذت الفجوة بينهما فى الاتساع عاما بعد آخر، مما يزيد من فاتورة الواردات وعجز الميزان التجاري.
وبعبارة أخرى فإن معدلات النمو المتواضعة بفعل تباطؤ دوران عجلة الإنتاج فى القطاعات الاقتصادية السلعية، وبصفة خاصة القطاعات ذات الإنتاجية المرتفعة والصناعات التحويلية تُلقى أعباءً جسيمة على المستقبل من حيث امكانية دفع الطاقات الإنتاجية لتوليد فرص العمل المستهدفة فى ظل انخفاض معدلات الاستثمار إلى مستويات حرجة، فضلا عن عدم القدرة على توفير الموارد العامة للدولة بالقدر الكافى للوفاء بكامل متطلبات تحقيق مطالب الشعب التى عبر عنها خلال ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو والمتمثلة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
ويمكننا القول إن الانطلاق بأى عملية تنموية فى مصر يبدأ أساسا من إحداث التغييرات الهيكلية التى تساعد على زيادة القدرة على إيجاد فرص عمل وتوليد الدخول لجميع فئات المجتمع وتحويله إلى مجتمع منتج. عن طريق تدعيم القواعد الإنتاجية القائمة وإزالة المعوقات التى تحول دون تفعيلها. وهو ما لن يتأتى إلا عبر إعادة الاهتمام والتركيز على القطاعات السلعية الإنتاجية وتحديدا الصناعة، إذ أن الدولة التنموية هى التى تؤسس شرعيتها على قدرتها على إطلاق عملية تنموية متواصلة لا تقتصر فقط على رفع معدل النمو الاقتصادي، وانما الأهم هو إحداث تحولات جذرية فى هيكل الإنتاج المحلى وإحداث تحولات مهمة فى النظام الاقتصادى والعلاقات الاجتماعية القائمة، وكلها أمور لا تتحقق الا بإعادة تصنيع مصر من جديد.
من هنا يجب العمل على إعطاء أهمية كبرى والتركيز على تعديل الهيكل الحالى وصياغة استراتيجية جديدة للصناعة المصرية . وتوفير مناخ مناسب للاستثمار الجاد يستند فى الأساس إلى زيادة قدرة المستثمرين على تقدير العوائد والمخاطر الاقتصادية المتوقعة. وإزالة المعوقات القائمة التى تعوق قدرة بعض المؤسسات على الاضطلاع بمهامها. كل هذه الأمور وغيرها ستمكن الاستثمار الجاد من التفاعل مع آليات السوق والمنافسة فى ظل مناخ يتسم بالشفافية، وبالمزج بين المساندة والرقابة الفعالة من مؤسسات الدولة. وتسهيل بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها افضل استخدام ممكن من خلال التوسع المنظم والفعال فى بناء القواعد الإنتاجية وتطبيق سياسات عاجلة لتحفيز الاستثمار الصناعى (الخاص والعام) والنشاط الاقتصادى عموما، وذلك عن طريق إيجاد بيئة اقتصادية قوية، ومستوى صناعى معقول، ونمو زراعى يساعد على تلبية الاحتياجات الأساسية، والاستفادة المثلى من الطاقات المتاحة بغية امتصاص البطالة ورفع مستوى المعيشة.
(المصدر: الاهرام 2015-09-30)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews