القطاع العام كأساس لإدارة اقتصاد حرب
يمثل القطاع العام أحد الأسلحة المهمة التى تستند إليها الدولة القومية فى أوقات الحروب وأوقات الأزمات. الواقع المصرى يؤكد أننا نخوض حرب وجود يستخدم فيها ضدنا سلاح الإرهاب، وسلاح المياه، وسلاح التركيع الاقتصادى، وسلاح تفكيك الجبهة الداخلية.
فى الظروف المماثلة يمثل القطاع العام والمشروعات المملوكة للدولة أهم الأسلحة التى تستند إليها فى إدارتها لاقتصاد الحرب. مشكلتنا أن سياسات تصفية القطاع العام أضعفت هذا السلاح.
صحيح أن الدولة تحاول توفير البديل الموضوعى عبر المؤسسة الاقتصادية للجيش، إلا أن هذا فى تصورنا لا يكفى ولا يمكن أن يغنى عن استعادة كفاءة وقوة المشروعات المدنية العامة، خاصة أن هذه المشروعات موجودة بالفعل ومشغلة بما يتراوح بين 20% و 25% فقط من طاقتها الكاملة. نحتاج إلى إحياء مشروعاتنا العامة جنبا إلى جنب مع تشغيل مصانع القطاع الخاص المتوقفة كى نضمن توفير السلع والخدمات الأساسية التى نحتاج إليها، ووقف استنزاف مواردنا المحدودة من النقد الأجنبى فى استيراد أى شيء وكل شيء.
حالة الحرب تستوجب أن نحذف من قائمة وارداتنا كل السلع والخدمات التى لا تشكل حاجة ضرورية للقاعدة العريضة من الشعب، وأن نوقف استيراد السلع ذات البديل المحلي، مع وضع حد أقصى لهامش ربحها وتفعيل جهاز مكافحة الاحتكار وجهاز حماية المستهلك، ضمانا لحق المواطن المصرى فى السعر والجودة وحتى لا يترك نهبا للاحتكارات المحلية.
والمؤكد أن الشرط الأساسى للنجاح فى تطبيق تلك السياسة يتمثل فى التركيز على تشغيل مصانعنا بطاقتها الكاملة لإنتاج قدر معتبر من السلع والخدمات الأساسية التى نحتاجها، ناهيك عن تصدير سلع وخدمات تتمتع بالتنافسية وتوفر لنا نقدا أجنبيا لدفع جزء من فاتورة الواردات. ومن هنا فإن إحياء مشروعات القطاع العام تمثل سبيلا رئيسيا لتخفيض عجز ميزان التجارة من ناحية وتوليد فائض وإيرادات ضريبية تؤءل للخزانة العامة وتسهم فى تخفيض عجز الموازنة العامة من ناحية ثانية، وهو ما يؤدى إلى زيادة المدخرات المتاحة للاستثمار وتخفيض معدلات البطالة من ناحية ثالثة.
أما عن مصادر التمويل اللازم لتطوير وإحياء المشروعات العامة فيمكن أن يأتى فى مقدمتها الاكتتاب العام، سواء من خلال طرح سندات أو طرح أسهم لزيادة رأس المال.
تجربة تمويل قناة السويس الجديدة من خلال الاكتتاب العام والتفاف الشعب المصرى حول هدف التنمية والبناء تمثل عاملا مشجعا ولا شك وتفتح الباب لإمكان التكرار لو آمن الشعب بجدية عمليات إعادة الهيكلة ووضوح كل من التكلفة والعائد والضمان، واطمأن إلى النتائج، فى ضوء خطة واضحة المعالم بتوقيتات محددة، وإدارة مختلفة تتمتع بالكفاءة والنزاهة.
وحتى لا يكون الاكتتاب الشعبى بابا خلفيا لسيطرة الاحتكارات الخاصة على المشروعات المملوكة للشعب، يجب التفرقة بين طرح السندات الذى يمثل اقتراضا لأموال يتم سدادها بعد فترة محددة وبين طرح أسهم لزيادة رأس المال والذى يمثل مشاركة فى ملكية المشروع. هنا يجب وضع حد أقصى للزيادة التى سيتم طرحها، بحيث لا تمثل إلا نسبة أقلية من رأسمال الشركة ككل، كما يوضع حد أقصى للمكتتب الواحد، بحيث لا يمتلك أى مستثمر منفردا حصة مؤثرة من رأسمال الشركة، بما يضمن الحفاظ على الطبيعة العامة للمشروع من جهة وخضوعه لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات من جهة أخري.
إحدى الآليات الأخرى المتاحة لتمويل إحياء المشروعات العامة تتمثل فى الأراضى المملوكة لشركات القطاع العام. المشكلة أن الحكومة قد عقدت النية فيما يبدو على تصفية الشركات الصناعية وتحويل أراضيها إلى منتجعات سكنية وسياحية، على غرار ما حدث لشركة النيل للكبريت بمنطقة محرم بك بالإسكندرية، التى أعلنت الحكومة تغيير نشاطها وإجراء تدريب تحويلى لعمالها، و استخدام 70 فدانا أراضى تملكها الشركة فى إنشاء مشروعات عقارية بالاشتراك مع الشركة القومية للتشييد والبناء.
والسؤال الملح هو إذا كان استخدام الأراضى فى مشروعات عقارية سيدر على الشركة أرباحا ويحل مشكلات التمويل، فلماذا لا يستخدم جزء من عائد تلك الأراضى فى تحديث وإحياء النشاط الصناعى الأصلى للشركة؟ وهذا هو مربط الفرس. يمكن بالفعل استخدام جزء من الأراضى المملوكة للمشروعات العامة فى توفير التمويل اللازم لإعادة إحياء المصانع وتحديث آلاتها ومعداتها وإقامة مجتمعات صناعية وعمرانية متكاملة على غرار تجربة مجمع نجع حمادى للألومنيوم.
باختصار أراضى شركات القطاع العام يجب أن تستخدم فى تمويل إحياء وتطوير الصناعات القائمة، والدخول فى استثمارات جديدة تضيف لقاعدة مصر الإنتاجية. إحياء المشروعات الاقتصادية المملوكة للدولة لا يتطلب فقط توافر التمويل اللازم وإنما أيضا وبالدرجة الأولى يتطلب إدارة مؤمنة بدور تلك المشروعات العامة كسلاح للدولة القومية فى معركة الوجود التى تخوضها مصر، إدارة تتمتع بالكفاءة والنزاهة والقدرة على الإنجاز. لا يعقل أن يعهد بإدارة التطوير وإعادة الهيكلة إلى نفس القيادات التى تكفلت لسنوات عديدة بتصفية المشروعات العامة والتخلص من عمالها.
المطلوب إدارة كفء قادرة على قيادة العمل بتنافسية، وعلى نفس الأرضية التى يعمل فى ظلها القطاع الخاص. نريد قطاعا عاما قويا وقادرا على المنافسة وغير محمل بأى أهداف اجتماعية. الأهداف الاجتماعية تتولاها الموازنة العامة للدولة من خلال سياسة الدعم والتحويلات. أما مشروعاتنا العامة فيجب أن تكون سلاحنا القوى الذى يوفر الظهير الاقتصادى اللازم للحفاظ على الدولة القومية وتعزيز الثقة فى النصر.
(المصدر: الأهرام 2015-12-06)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews