الاقتصاد المصرى.. والأديب الموهوب
طبيب يهوى الأدب، يكتب قصصا قصيرة جميلة جدا، وله عامود يومى فى صحيفة رسمية، يعبر فيه عن تأملاته فى الحياة والناس والحب والدين، فيجذب القاريء بصدقه وفصاحته وموهبته الأدبية، نادرا ما يكتب فى السياسة (وإن كان لا يقاطعها تماما)، وذلك لأسباب أفهمها جيدا ولا ألومه عليها، لكل هذا أحرص على قراءة ما يكتبه.
فاجأنى منذ أيام قليلة، بأنه قرر أن يخصص عاموده فى ذلك اليوم للاقتصاد، إذ كان محافظ البنك المركزى قد أدلى بحديث مهم عن الصعوبات التى يواجهها الاقتصاد المصرى، وانخفاض حجم الاحتياطى من النقد الأجنبى، وتخفيض قيمة الجنيه، فانفعل الكاتب الأديب لما احتواه الحديث من بعض الأرقام الرهيبة عما تنفقه مصر على استيراد سلع غير ضرورية، بينما يرى ما يواجهه الناس يوميا من صعوبات فى الحصول على سلع وخدمات ضرورية، قرر الرجل أن يترك التأمل جانبا وأن يتصدى للمشكلة الاقتصادية وجها لوجه، رغم شعوره بأنه يكتب فى غير اختصاصه، وعبر عن أسفه لذلك بقوله: «المشكلة أننا لسنا اقتصاديين»، قال «إنهم يهددوننا باتفاقية الجات، فهل هذا التهديد صحيح؟ المشكلة أننا لسنا اقتصاديين، وبالتالى لا نستطيع التأكد مما يقال، فليت الملمين باتفاقية الجات يخبروننا عن عواقب منع استيراد سلع كمالية».
ولكن هذا لم يمنعه من أن يقول كلاما صحيحا ومهما وفى الصميم، مما جعلنى أشعر بشيء يشبه الشعور بالذنب، فها أنا ذا اقتصادى قديم، درست الاقتصاد المصري، وكتبت عنه كثيرا، فكيف لا أكتب الآن عن هذه الحقائق المؤسفة التى جاءت فى حديث محافظ البنك المركزي، وتجىء من حين لآخر على لسان غيره من المسئولين؟، مما يدفع كاتبا غير متخصص فى الاقتصاد الى الشكوى والاستنجاد بالاقتصاديين أن يدلوه عما اذا كان يقول كلاما سليما أم لا، وأن يصححوا كلامه اذا كان قد أخطأ.
يقول الدكتور أيمن الجندى، وهو الأديب صاحب العامود اليومى فى جريدة المصرى اليوم (18/10/2015):
«هل من الطبيعى أن نقوم باستيراد تفاح قيمته 400 مليون دولار؟ هل هذه سلعة لا نستطيع الاستغناء عنها؟ هل من الطبيعى أن نستورد سكر بـ 2.6 مليار دولار، ولدينا مصانع لديها مخزون من السكر لا تستطيع أن تصرفه؟»، ويقتطف قول محافظ البنك المركزى «أعلنا عن استيراد الشركات المصنعة للسيارات كبيرة الحجم ما قيمته 3.2 مليار دولار مقارنة بأقل من مليار ونصف مليار فى العام الماضى».
ليس هناك أى خطأ فيما عبر عنه الكاتب الأديب من غضب على ما يحدث فى الاقتصاد المصري، ومن دهشته فى ألا تفكر الحكومة المصرية فى تقييد الاستيراد، سواء بمنع استيراد بعض السلع الكمالية أو بفرض ضرائب عالية جدا عليها، وأؤكد له أنه قال كلاما يوافق عليه قسم كبير من الاقتصاديين، فالمشكلة ليست فى أنه «ليس اقتصاديا»، بل تكمن المشكلة فى أشياء أخرى.
الاقتصاديون المصريون يمكن تصنيفهم الى قسمين: قسم يرى أن الاتفاقيات الدولية التى تؤدى الى تحرير التجارة الدولية (وتخفيض القيود المفروضة عليها الى أدنى حد ممكن)، والتى وقعت عليها مصر، هى فى مصلحة الدول المتقدمة اقتصاديا والأقل تقدما على السواء، فلا شيء أفضل فى نظرهم من ترك الأسواق حرة دون قيود، إذ إن حرية التجارة تؤدى الى زيادة الكفاءة، وترشيد توزيع الموارد الاقتصادية، كما أن الدول الأقل تقدما لا يمكن أن تتقدم إلا بجذب رءوس الأموال الأجنبية، وهذه لن تأتى إلا فى ظل تحرير التجارة وإلغاء القيود.
ولكن هناك قسما آخر من الاقتصاديين (أنتمى أنا إليه)، يعتقد أن هذه الاتفاقيات تحقق مصالح الدول المتقدمة اقتصاديا أكثر من مصالح الدول الأقل تقدما، بل كثيرا ما يكون من مصلحة هذه الدول الأقل تقدما الخروج عليها، وفرض القيود على التجارة لحماية صناعاتها الناشئة ولحل مشكلات ميزان المدفوعات والبطالة، وأن الاستثمارات الأجنبية الخاصة ليست شرطا للتقدم الاقتصادى، بل يمكن للدول الفقيرة، مهما زاد فقرها، أن تعتمد اعتمادا كبيرا على نفسها، وأن الدول المتقدمة صناعيا لم تتقدم هى نفسها إلا بالاعتماد على نفسها، وبفرض القيود التجارية والحمائية لصناعاتها، فأن تجيء الآن وتطالبنا بتحرير التجارة أشبه بحالة شخص بعد أن صعد الى سطح المنزل باستخدام سلم خارجي، ركل السلم بعيدا ليمنع الآخرين من اللحاق به.
المشكلة إذن ليست فى خطأ التدخل بتقييد الاستيراد، بل فى أن حكوماتنا المتعاقبة أثبتت أنها أضعف من الاعتراض على هذه الاتفاقيات عندما عرضت عليها للتوقيع، بل وأضعف من استخدام بعض النصوص التى تضمنتها هذه الاتفاقيات لمصلحتنا، والإصرار عليها، بل لم تفعل حكوماتنا ما فعلته حكومات دول أخرى (كالهند مثلا) باستخدام الفرص المتاحة، حتى فى هذه الاتفاقيات الظالمة، من أجل تحقيق مصالح وطنية.
لقد انضمت مصر الى اتفاقية الجات فى سنة 1970، وهى اتفاقية ترمى الى تحرير التجارة الدولية من القيود، ثم وقعت مصر على اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية فى 1995، وهى المنظمة التى حلت محل الجات وتخدم مثلها مصالح الدول المتقدمة، أكثر مما تخدم مصالح الدول الأقل تقدما، وقد أدى ذلك الى انخفاض الحد الأقصى للتعريفة الجمركية فى مصر من 70% فى 1994 الى 43% فى 2000 ثم الى 40% فى 2004.
ولكن هناك مادتين فى اتفاقية التجارة الدولية تراعيان الى حد ما مصالح الدول الأقل تقدما، وهما المادة (12)، التى تسمح بفرض بعض القيود على التجارة اذا استلزم ذلك اختلال ميزان المدفوعات، والمادة (18) اذا استلزم ذلك حماية بعض الصناعات المحلية، ولكن هذا «الكرم» من جانب الدول الأكثر تقدما لم يكن كاملا، فقد اشترط تطبيق هاتين المادتين حدوث «تفاهم» بين المنظمة والدولة الراغبة فى تقييد الاستيراد، وهذا «التفاهم» يتطلب شروطا وإجراءات قاسية، والالتزام بأن هذا التقييد موقوت بفترة محددة، مع فرض عقوبات على من يخالف هذه الشروط والإجراءات.
من الطبيعى أن تختلف الدول التى تريد تقييد الواردات فى مدى النجاح أو الفشل فى تحقيق ما تريد، طبقا لقوتها السياسية التى تحدد درجة قوتها فى المساومة، وهذا هو بالضبط ما تعانى منه مصر منذ وقت طويل، ولهذا السبب، نجد دولا كالهند أو تونس، استطاعت الإفادة من هاتين المادتين أكثر مما استطاعت مصر، ومن ثم نجد أن متوسط التعريفات الجمركية فى مصر فى سينة 2004 (وهو 8.9%) أقل بنسبة (68% منه فى الهند (28%)، وأقل بنسبة 62% فى تونس (23.2%)، (نظر د. إبراهيم العيسوى الاقتصاد المصرى فى ثلاثين عاما، المكتبة الأكاديمية، 2007، ص 404).
المشكلة لا تكمن إذن فى أن مصر، إزاء مشكلتها الاقتصادية، تواجه قدرا لا يمكن الفرار منه، ولكن المشكلة فى أننا لا نبدى الإرادة القوية الكافية لمواجهته.
(المصدر: الاهرام 2015-10-26)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews