الاقتصاد المصرى والتحول إلى المعاملات البنكية

تعد ظاهرة تفضيل التعاملات النقودية عن البنكية إحدى الظواهر الأساسية التى يتسم بها المجتمع المصري، وقد سبق ان تناولنا هذا الموضوع فى أكثر من مقال على هذه الصفحة خاصة عند تناولنا لظاهرة توظيف الأموال وأسباب انتشارها فى البلاد.

وعلى الرغم من إدراك بعض المسئولين لخطورة هذه المسألة وآثارها السلبية على المجتمع الا انهم للأسف يرون ان الحل يكمن فى اصدار تشريع جديد يضع سقوفا محددة للتداولات النقدية. ورغم أهمية وضرورة هذه الآلية الا انها تظل الوسيلة الأخيرة التى يمكن ان تتصدى لهذه الظاهر فهناك العديد من السياسات والخطوات التى يجب القيام بها قبل إصدار أى تشريع يتعامل معها. وبعبارة اخرى فلابد ان يسبقها او يتزامن معها على الأقل التصدى للمشكلات المسببة لهذه المسألة وتجهيز البنية الأساسية المناسبة لها. خاصة وان هذه الظاهرة لا تقتصر على الشرائح الدنيا من الافراد، كما يتصور البعض، ولكنها تمتد لتشمل كافة شرائح المجتمع والاهم من ذلك انها تشمل ايضا العديد من المؤسسات العاملة فى الاقتصاد المصري، مثل الفنادق والنوادى والمدارس والجامعات الخاصة وغيرهم. اذ يتم دفع المصروفات الدراسية بمعظم الجامعات الخاصة نقدا وليس عن طريق الجهاز المصرفي، على الرغم من انها مبالغ كبيرة للغاية. وقد نشرت الصحف خبرا مفاده قيام سائق سيارة اجرة بإعادة مبلغ اربعة ملايين من الجنيهات الى صاحبها الذى كان قد نسيها فى السيارة، ومن المفارقات ان هذا المبلغ كان سيدفعه الرجل الى آخر نظير مزرعة يعتزم شراؤها!!! وغيرها الكثير من الامثلة الدالة على تفضيل المعاملات النقدية عن المعاملات البنكية.

وليس أدل على ذلك من ارتفاع نسبة النقد المتداول خارج الجهاز المصرفى فى هيكل السيولة المحلية حيث ارتفع من 14.2% عام 2009 الى 16.6 % عام 2011 والى 17.9% عام 2014، جنبا الى جنب مع انخفاض نصيب الودائع المصرفية. مع ملاحظة انخفاض النقد المتداول من العملات فئات العشرين جنيها والفئات الاقل، مقابل الزيادة الكبيرة فى العملات مئة جنيه ومائتى جنيه. ناهيك عن ارتفاع معدل الاكتناز بالمجتمع، والذى ظهر جليا فى الاموال التى توجهت الى شركات توظيف الاموال، فضلا عن تلك التى استثمرت فى شهادات قناة السويس مؤخرا وغيرها الكثير.

ويمكننا إرجاع السبب فى ذلك الى مجموعتين من العوامل اولها يتعلق بالأفراد والثانى يتعلق بالقطاع المصرفى ذاته ففيما يتعلق بالأفراد فإننا نلحظ ان المجتمع المصرى يعانى من بعض القيم السلبية تجاه التعامل المصرفي، فضلا عن سيادة انطباع لدى البعض بان هذه التعاملات هى تعاملات ربوية، وبالتالى مخالفة للشريعة الاسلامية، الامر الذى ادى الى احجام نسبة لا بأس بها من الافراد عن التعامل المصرفي، وذلك رغم المحاولات التى قامت بها بعض البنوك بإنشاء فروع للمعاملات الاسلامية. وعلى الرغم من عدم صحة هذه المقولة تماما وهو ما اوضحته العديد من الفتاوى الاسلامية الهامة من كبار المفكرين الاسلاميين وعلى رأسهم الامام الراحل د. سيد طنطاوى فى كتابه امعاملات البنوك واحكامها الشريعةب وهو كتاب مهم نتمنى ان تصدر منه طبعات شعبية ويتم توزيعه على اوسع نطاق ممكن، الا ان هذا الانطباع مازال سائدا لدى شريحة لا بأس بها من الافراد، خاصة فى الريف المصري. يضاف الى ذلك اتساع نطاق القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد القومي، والذى لا يتعامل اصلا مع الجهاز المصرفي، الا فى حدود ضيقة للغاية، رغم اتساع حجم انشطته بصورة كبيرة.

وقد ادت هذه العوامل وغيرها الى هروب الافراد من الجهاز المصرفى والذى فشل حتى الأن، على الاقل،فى تغذية الروح الادخارية لدى المواطن العادي. وذلك نظرا لتعقيدات المعاملات البنكية او لسيادة انطباع لدى البعض بسوء المعاملة وارتفاع تكلفتها.

وعلى الجانب الآخر فعلى الرغم من توسع البنوك فى انشاء العديد من الفروع والتى وصلت فى نهاية يونيو 2014 الى 3712 فرعا (منها 1017 بنوك القرية) الا انها مازالت لا تتناسب مع عدد السكان من جهة وايضا تعانى من مشكلة التركز الشديد، اما فى القاهرة الكبرى او بعض المحافظات، الحضرية وفى مدن هذه المحافظات وبالتالى تغيب تماما عن معظم قرى ونجوع مصر ولم تحقق الانتشار المصرفى المطلوب. بل وحتى حينما تنشئ البنوك فرعا لها فى هذه المناطق فهى تتعمد البناء على احدث مستوى من الفخامة والبذخ بحيث يخشى المواطن العادى الاقتراب منه أصلا ناهيك عن التعامل معه .ولذلك يظل الجهاز المصرفى بالنسبة لهؤلاء كائنا هلاميا لا يراه الا فى الأفلام، وبالتالى لم ينجح حتى الآن، فى تقديم الخدمات المصرفية لهؤلاء ولا الوجود بالقرب منهم وفى أماكن يسهل الوصول اليها، ويكفى للتدليل على ذلك النظر فى هيكل المودعين فى قضايا توظيف الأموال التى أثيرت مؤخرا، والتى ستثار مستقبلا، حيث نلحظ ان معظمهم من قرى صعيد مصر، والتى لا يوجد بها أى فرع او نشاط لأى بنك من البنوك العاملة فى مصر، بل ان اقرب فرع لبنك يبعد عشرات الكيلومترات عن سكن هؤلاء، وهو ما يحرم هذه البنوك من جانب لا بأس به من المدخرات نتيجة لتسربها الى خارج الجهاز المصرفى وهى النقطة التى تحسن شركات تنظيف الأموال استغلالها تماما، خاصة وانها تركز على العلاقات الشخصية والتعامل المباشر مع الافراد، وهى القضية التى يجب ان ننشغل بها جميعا لوضع آليات ووسائل لتشجيع البنوك المصرية على فتح المزيد من الفروع فى الريف والقرى المصرية، مع مراعاة الذوق العام عند البناء فى هذه المناطق.

ويرتبط بهذه المسألة قلة عدد ماكينات الصرف الآلى فى كافة أنحاء البلاد. بل وتركزها أيضا فى مدن محددة ومناطق معينة، ومن العجيب انها لا توجد بنفس الكثافة فى المناطق السياحية مثل الأقصر، وإذا وجدت فهى دائما خارج الخدمة!! ومن المعروف ان هذه الماكينات هى إحدى الأدوات الهامة المعززة للتعامل البنكى لانها تسهل كثيرا من الأمور.

وعلى الجانب الآخر مازالت البنوك غير قادرة على خدمة المواطنين العاديين والفلاح البسيط والعامل،الامر الذى ادى الى ارتفاع معدلات الاكتناز والاستمرار فى تفضيل التعامل النقودى عن التعامل المصرفى وهى المسألة التى ينبغى ان تولى عناية القائمين على الاقتصاد المصرى للعمل على تغيير هذه العادات عن طريق دراسة أسبابها، والقضاء على المعوقات التى تحول دون تطوير العادات المصرفية بالمجتمع وكلها أمور لا ترتبط بالتشريع فحسب بل تحتاج الى أمور اخرى كثيرة.

(المصدر: الأهرام 2016-05-18)