الغاز الطبيعي ومكانة مصر
جاء إعلان إكتشاف حقل عملاق للغاز الطبيعى فى المياه الإقليمية المصرية فى البحر المتوسط بمثابة الزلزال الذى من شأنه تغيير موازين القوى فى الشرق الأوسط لسنوات طويلة قادمة. فقد أعلنت شركة إينى الإيطالية العملاقة العاملة فى مجال التنقيب وإستخراج وإنتاج البترول والغاز الطبيعى فى 30 أغسطس إكتشاف أكبر حقل للغاز فى البحر المتوسط على بعد 190 كيلومترا من شواطئ بورسعيد فى منطقة التنقيب المسماه "شروق".
وأعلنت الشركة أن الإحتياطى المتوقع لهذا الحقل، الذى أطلق عليه إسم "زهر"، يصل بصفة مبدئية، وربما يتعدى، 30 تريليون قدم مكعب، أى ما يوازى 5.5 مليار برميل بترول. ومن شأن هذا الكشف أن يزيد من الإحتياطى المصرى من الغاز الطبيعى بنسبة 40% وأن يمكن البلاد من تحقيق الإكتفاء الذاتى بمطلع عام 2020 وربما التصدير من جديد للخارج بعد ذلك.
إن إدراك أهمية هذا الكشف يتطلب الرجوع قليلا للوراء لمعرفة حجم التطورات التى مرت بها مصر والمنطقة خلال السنوات الماضية. فقد بدأت مصر فى تصدير الغاز الطبيعى فى عام 2003 لدول مثل إسرائيل والأردن. وكانت الصادرات المصرية تغطى نحو 40% من إحتياجات إسرائيل ومعظم إحتياجات الأردن لتوليد الكهرباء. وكان لمصر فى ذلك الوقت خطط طموحة للتوسع فى تصدير الغاز. لكن الأمور لم تسر كما كان مخططا لها. فبعد أن وصلت الصادرات المصرية لقمتها فى 2009 بما يوازى 18.3 مليار متر مكعب، أخذت فى التراجع إبتداء من 2010 لكى تتلاشى تماما فى 2012، ثم تبدأ مصر فى إستيراد الغاز إعتبارا من 2013. ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب. أولها إرتفاع الإستهلاك الداخلى للغاز بمعدل 8.7% سنويا فى الفترة من 2000 إلى 2012، متجاوزا نسبة الزيادة فى الإنتاج خلال تلك الفترة ومتجاوزا نسبة زيادة إستهلاك الطاقة بشكل عام فى مصر والتى بلغت 5.6% خلال نفس الفترة. ويعنى ما سبق زيادة إعتماد البلاد على الغاز فى تغطية إحتياجاتها من الطاقة، نظرا لتراجع إنتاج المصادر الأخرى. إذ إرتفعت نسبة مساهمته فى تغطية تلك الإحتياجات من 35% عام 2000 إلى أكثر من 50% عام 2012. ويرجع ضعف زيادة الإنتاج ثم تناقصه بعد 2011 لأسباب أخرى، أهمها تراكم ديون الحكومة لشركات البترول العالمية العاملة فى مصر، وهو ما حدا بتلك الشركات إلى خفض أنشطتها فى التنقيب لحين سداد مستحقاتها. ثم جاءت ثورة يناير 2011 وما تلاها من عدم إستقرار سياسى وأمنى لكى تؤدى إلى توقف الإستثمارات فى قطاع البترول والغاز الطبيعى. فالشركات الأجنبية أحجمت عن ضخ أى إستثمارات جديدة لحين إستجلاء الموقف وإتضاح مسار التطور السياسى لمصر.
وفى الوقت الذى تراجع فيه إنتاج مصر من الغاز و بدأت الحكومة فى الإستيراد لتلبية الإستهلاك الداخلى المتصاعد، إنقلب الموقف فى الدول المجاورة، وتحديدا فى إسرائيل وقبرص، حيث أعلنت تل أبيب عن إكتشافين هامين للغاز الطبيعى فى البحر المتوسط، و هما "تامار" فى 2009 و"ليفياثان" فى 2010. ويبلغ إحتياطى الحقل الأول 7.9 تريليون قدم مكعب والثانى 17 تريليون. وكان الحقل الأخير يعتبر حتى إكتشاف "زهر"، أكبر حقل للغاز الطبيعى فى البحر المتوسط. وهكذا تحولت إسرائيل بفضل هذين الإكتشافين من دولة مستوردة للغاز إلى مصدرة محتملة، حيث لم يبدأ بعد الإنتاج التجارى فى حقل "ليفياثان". ومن جانبها، أعلنت قبرص هى الأخرى عام 2011 إكتشاف حقل "أفروديت" للغاز الطبيعى فى البحر المتوسط بإحتياطى 6 تريليون قدم مكعب. وقد بنت كلا الدولتين خططهما المستقبلية على التصدير لمصر بحكم إتساع سوقها الداخلى وإستمرار إزدياد الطلب فيها على الغاز. ومن وجهة النظر المصرية، كان إستيراد الغاز من هاتين الدولتين له مايبرره إقتصاديا –برغم المحاذير السياسية المرتبطة بإسرائيل- بحكم قربهما الجغرافى، وهو ما من شأنه تقليل تكلفة النقل. وبالفعل وقعت شركات إستخراج الغاز فى إسرائيل فى يونيو و أكتوبر 2014 خطابات نوايا مع شركات عاملة فى مصر لإستيراد الغاز الإسرائيلى من حقلى ليفياثان و تامار. إلا أن خطابات النوايا، وهى غير ملزمة، لم تتحول لإتفاقات مكتوبة حتى إكتشاف حقل "زهر". ومن جانبها، وقعت قبرص إتفاق مبدئى لتصدير الغاز من حقل أفروديت إلى مصر إعتبارا من عام 2022 بعد بناء خط أنابيب تحت البحر لنقل الغاز. لكن بعد إكتشاف حقل "زهر"، أصبح إحتمال إتمام هذا الإتفاق غير وارد، ولا ينفى ما سبق أن مصر ستستمر فى إستيراد الغاز من مصادر مختلفة لحين دخول الحقل الجديد مجال الخدمة، وهو متوقع فى 2017.
من شأن الإكتشاف الجديد أن يوفر للحكومة، بعد دخوله الخدمة، نحو 2 مليار دولار هى قيمة واردات الغاز حاليا. ومن شأنه أن يساهم فى زيادة إنتاج الكهرباء وتفادى إنقطاع التيار المتكرر فى أشهر الصيف الحارة. ومن شأنه كذلك أن يساهم فى توفير قاعدة صلبة لإطلاق وتنفيذ المشروعات الوطنية العملاقة التى تعول عليها الدولة لتنشيط الإقتصاد وزيادة معدلات التنمية وخفض البطالة. وهذه كلها عوامل إستقرار سياسى. فمصادر الطاقة، ومن بينها الغاز، هى ركيزة أساسية لإنعاش الإقتصاد، وهو الأمر الذى تركز عليه الحكومة فى المرحلة الراهنة. وليس أدل على ذلك من إختيار وزير البترول شريف إسماعيل لقيادة الحكومة الجديدة. وقد إتضحت سياسة الدولة فى هذا الشأن خلال مؤتمر شرم الشيخ لدعم الإقتصاد المصرى فى مارس الماضى، حيث حظيت إستثمارات الطاقة بإهتمام خاص. فقد وقعت خلاله شركة بريتش بتروليم البريطانية إتفاقا لضخ إستثمارات بقيمة 12 مليار دولار، بينما أبرمت شركة إينى الإيطالية عقدا بخمسة مليارات دولار. والواقع أن تلك الإستثمارات، التى كان حقل "زهر" هو أولى ثمارها، هى نتيجة لسياسة مزدوجة إتبعتها الحكومة خلال الفترة الأخيرة لتشجيع شركات البترول والغاز العملاقة على إستئناف إستثماراتها فى مصر. وإعتمدت تلك السياسة أولا على الإسراع بتسديد الديون المستحقة على الدولة لصالح تلك الشركات. وقد إنخفضت تلك الديون من 4.9 مليار دولار فى ديسمبر 2013 إلى 2.9 فى نهاية أغسطس 2015. وتزمع الحكومة تسديد باقى الديون بنهاية 2016. ومن ناحية أخرى، عمدت الحكومة إلى زيادة الأسعار التى تدفعها لتلك الشركات مقابل إنتاجها من الغاز، بهدف تحفيزها على عمليات التنقيب والإستخراج. فقد إتفقت الشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعى فى يوليو الماضى مع شركة إينى على زيادة سعر الغاز المنتج فى أى إكتشاف جديد من 2.65 دولار لكل مليون وحدة حرارية إلى مبلغ يتراوح بين 4 و 5.88 دولار. ويضاف إلى ما سبق ان تحقيق الإكتفاء الذاتى فى مجال الطاقة، ومايترتب على ذلك من دفع التنمية ودعم الإستقرار، من شأنه أن يضيف لرصيد مصر من عناصر القوة الشاملة وان يسهم بالتالى فى دعم مكانتها الإقليمية والدولية.
(المصدر: الأهرام 2015-10-03)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews