القدس تقرع جرس انتفاضة مفروضة
في إطار التحولات النوعية للاشتباك السياسي والميداني المفتوح والشامل بين الوطنية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الإقصائي الذي يرفض قادته إنهاءه، ويصعب تصور رحيله من دون تحويله إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة، اندلعت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1987 . هنا تعهد الجنرال الصهيوني رابين، وزير حرب العدو آنذاك، ب"إنهاء أعمال الشغب خلال ثلاثة أيام" . لكن جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية عجزاً عن إخماد تلك الانتفاضة كمبادرة شعبية هجومية شاملة وممتدة لإنهاء الاحتلال بمظاهره السياسية والعسكرية والأمنية والاستيطانية وانتزاع "الحرية والاستقلال" . في حينه واجه قادة الاحتلال سؤالاً سياسياً استراتيجياً، جوهره: كيف السبيل لإجهاض تلك الانتفاضة كحدث قائم وكاستراتيجية مقاومة قابلة للتكرار، واستطاعت بطابعها الشعبي الواسع تحييد الكثير من عوامل قوة جيش الاحتلال بترسانته العسكرية الهائلة والتكنولوجية المتطورة، وتكبيده خسائر مادية باهظه، والتفوق عليه وإحراجه سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً؟
في العام ،1988 ذروة الانتفاضة، طرح حزب العمل الصهيوني بقيادة رابين فكرة إخراج جيش الاحتلال من وسط التجمعات السكانية الفلسطينية الكبيرة باستثناء القدس، بغرض تخفيف الأعباء الأمنية للاحتلال . وبعد فوز الحزب في انتخابات 1992 فتح قناة تفاوض سرية مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لتمرير فكرته، بل خطته، نجح في جرها إلى توقيع "اتفاق أوسلو"، وإدارة "سلطة فلسطينية انتقالية" تحت الاحتلال الذي تخلص بذلك لا من أعبائه الأمنية، فحسب، بل من أعبائه السياسية والإدارية والمالية والأخلاقية، أيضاً .
هنا ظن قادة العدو أنهم بإنهاء الانتفاضة "الأولى" كحدث، وبتموضع جيشهم عند بوابات مدن الضفة ومستوطنات قطاع غزة، قد نجحوا في السيطرة على التجمعات السكانية الفلسطينية الكبيرة، وفي إجهاض وتصعيب ممكنات تكرر الانتفاضة كاستراتيجية مقاومة شعبية، لكن النتيجة معاكسة لما خططوا وظنوا، عندما تطورت الهبة الجماهيرية التي أعقبت زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى في سبتمبر/ أيلول 2000 إلى انتفاضة شعبية حولها إدماء موجتها الأولى على يد جيش الاحتلال المتمركز عند بوابات المدن إلى انتفاضة مسلحة أجبرت شارون في العام 2005 على فك الارتباط العسكري والاستيطاني من طرف واحد مع قطاع غزة، ظناً منه أيضاً أنه بهذه الخطوة التي كان يفترض استكمالها ب"خطة الانطواء" من طرف واحد في الضفة بعد اجتياحها وبناء جدار التوسع والضم فيها، يزيد منسوب سيطرة الاحتلال على الفلسطينيين، ويقلص خسائره وأعباءه إلى درجة أكبر وبالمعنى الشامل للكلمة، لكن الحصاد هنا جاء أشد مرارة، حيث اضطرت فصائل المقاومة في القطاع إلى تهريب وتطوير وابتكار وسائل قتالية نوعية، صاروخية خصوصاً، مكنتها من إسقاط نظرية الاحتلال "عن بعد"، وإفشال حروبه العدوانية وتحقيق إنجازات ميدانية، بلغت ذروتها في حرب التدمير والإبادة الجماعية المبيتة الأخيرة .
والآن، بعد 21 عاماً على توقيع "اتفاق أوسلو" ونشوء فكرة إمكان استمرار الاحتلال "عن بعد"، ينتهج أركان أشد حكومات الاحتلال تطرفاً سياسة هجومية بلغت أوجهها في المجاهرة بأطماعهم وشروطهم الصهيونية لفرض "حل إقليمي" يستثني جوهر الصراع، قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والتاريخية، ويلبي ناظم الشروط الصهيونية كافة المتمثل في شرط أن لا إنهاء للصراع من دون إسقاط حق عودة اللاجئين و"الاعتراف ب"إسرائيل" دولة للشعب اليهودي" . أما عن التصعيد الميداني النابع - بالضرورة - من التصعيد السياسي فحدث ولا حرج .
فمن سعار مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، إلى فلتان عصابات المستوطنين وتصعيد اعتداءاتهم على حياة فلسطينيي الضفة ومزروعاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم ومقدساتهم، إلى جنون الهجمة غير المسبوقة على القدس لحسم معركتها، أرضاً وسكاناً وبناءاً عمرانياً ومصادر رزق ومناهج تعليم ومقدسات، في مقدمتها المسجد الأقصى المراد تقسيمه مكانيا وزمانياً وإنهاء الولاية الأردنية عليه، تمهيداً لهدمه كما يدعو غلاة الجناح الصهيوني الديني، إلى تغيير قواعد الاشتباك بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، وتكثيف حملات الاعتقال، والإداري منه بالذات، وزيادة العقوبات الجماعية بأشكالها، ورفع منسوب التنكيل بالأسرى، بما يذكر بإجراءات الاحتلال الأمنية التي أدت إلى انفجار الانتفاضة "الأولى" في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1987 .
عليه، لم يعد السؤال لماذا تتلاحق الهبات الجماهيرية الفلسطينية على مدار السنوات الماضية، إنما لماذا لم يتحول أي منها إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة، بما فيها هبة القدس المتواصلة منذ يونيو/حزيران الماضي، والمتسمة، شكلاً ومضموناً، بملامح الغليان الشعبي الذي سبق انفجار انتفاضة (1987-1994)؟
هنا سؤال منطقي ومشروع يجد إجابته أولاً وأساساً في عدم توافر الشرط القيادي الوطني الموحد المستعد والجاهز، ارتباطاً باستمرار الانقسام الداخلي المدمر الذي لم ينته بتشكيل "حكومة التوافق" الشكلية، وباستمرار الرهان على خيار المفاوضات المثقل بالتزامات سياسية وأمنية واقتصادية، بضمنها التزامات "التنسيق الأمني" و"التهدئة" التي تحبط الهبات الجماهيرية، بوصفها التزامات من طرف واحد، وبلا مقابل سياسي، ولو في حدود تجميد عمليات مصادرة الأرض الاستيطان والتهويد، أو تخفيف حدة جرائم الاحتلال الماثلة في العقوبات الجماعية والقتل والجرح والاغتيال والاعتقال وتقطيع الأوصال واستئصال مقومات الهوية الوطنية وتدمير المنازل والممتلكات وانتهاك المقدسات والتنكيل بالأطفال حد إحراق أحدهم حياً وإطلاق النار على بعضهم ودهس بعض آخر منهم و . . . من الجرائم التي لا يرتكبها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، فحسب، بل وعصابات مستوطنيه الفالتة من كل عقال، أيضاً . لذلك لا عجب في القول: فقط بالمعنى الزمني يمكن تأخير انفجار انتفاضة فلسطينية "ثالثة" صارت استحقاقاً سياسياً مفروضاً بمعزل عن الأشكال التي ستتخذها . فمرحى للقدس وهي تقرع الجرس وتتقدم الصفوف بهبتها البطلة .
الخليج 2014-11-09
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews