إجراءات لإنقاذ قطاع الكهرباء في باكستان (3)
المقال السابق أشار إلى أن القرض الذي تم اعتماده من صندوق النقد الدولي فور تسلم حكومة نواز شريف إدارة الدولة ارتبط بشروط إصلاح وإعادة هيكلة للعديد من القطاعات وعلى رأسها قطاع الطاقة. وتم اتفاق الطرفين فيما يخص إصلاح قطاع الكهرباء على أن يتم التركيز على أمرين اثنين: إعادة هيكلة التعرفة وتحسين إدارة التحصيل. قبل الخوض في تفاصيل الإجراءات التي تبنتها الدولة وجب التنويه إلى بعض المؤشرات الاقتصادية لفهم مبررات هذه الإجراءات. تعاني موازنة الحكومة من عجز وصل إلى 6.5 في المائة وارتفاع مستوى الدين العام إلى 60 في المائة من إجمالي الناتج القومي. هذا عدا انخفاض مستوى احتياط النقد الأجنبي إلى جانب تزايد احتمال تعطل إصدار السندات باليورو وذلك لتوجه المستثمرين للاقتصادات المتحولة في الدول المجاورة حيث تعد عملية جمع الأموال من الخارج من أهم وسائل سد عجز الميزانية.
ساهم في نمو عجز الموازنة ارتفاع أسعار الطاقة العالمية حيث تعتمد البلاد على 38 في المائة من إجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة على النفط المستورد (معظمها من دول الخليج العربي) كأبرز عوامل الضغط على ميزانية الحكومة خاصة أن تعرفة الكهرباء مدعومة إلى حد كبير. وعلى الرغم من الكثافة السكانية العالية (نحو 185 مليون نسمة) إلا أن إجمالي قدرات توليد الكهرباء المتاحة كانت أقل من 23 جيجا واط في عام 2012 (أي ما يعادل نحو 40 في المائة من إجمالي السعة المتاحة في المملكة في العام نفسه). وفيما يخص مؤشر الاستهلاك الفعلي للطاقة الكهربائية، انخفض إجمالي الاستهلاك إلى نحو 76.800 جيجا واط ساعة في عام 2012 م من 77.100 جيجا واط ساعة في عام 2011 كمؤشر خطير على تباطؤ نمو الاستهلاك وتبعات ذلك على نمو الاقتصاد ورفاهية المجتمع إجمالا (ما يعادل أقل من ثلث إجمالي استهلاك المملكة). ومما ساهم في تباطؤ نمو الاستهلاك، استمرار ظاهرة انقطاع التيار إلى أكثر من 12 ساعة في المدن وأكثر من 20 ساعة في الأرياف الأمر الذي أثر بشكل مباشر في تباطؤ النمو الاقتصادي إلى 4 في المائة من إجمالي الناتج القومي لعام 2012. أحد الأسباب الرئيسة لتكرار انقطاع التيار انعدام التوازن بين مستويي الإمداد والطلب حيث يتطلب بناء وحدات توليد بمقدار 5000 ميجا واط على الأقل بشكل فوري للوصول إلى نظام كهربائي متوازن ومستقر. هذا يعني ضرورة تمويل مشاريع ضخمة تعزز مستويات الإمداد إضافة لتعزيز شبكات النقل والتوزيع لاستيعاب الإمداد المضاف. وفعلا توجد خطة طموحة لتمويل المشاريع اللازمة بالتعاون مع مصارف دولية وإقليمية مختلفة إلا أن الاقتراض من الخارج دون النظر لمعالجة تحديات القطاع الهيكلية سيساهم حتما في إغراق البلاد في مزيد من الديون المتراكمة.
وسعيا في إخراج القطاع من أزمته المالية، اعتمدت الحكومة سياسة وطنية لإصلاح القطاع خلال 3 - 5 سنوات قادمة تهدف إلى التخلص من دعم أسعار الطاقة تدريجيا إلى أن تصل لمستوى استرداد التكلفة (أي تكلفة التشغيل إضافة للاستثمارات الرأسمالية المطلوبة لتوسعة وتعزيز البنية التحتية). أول تعديل للتعرفة تم إقراره في ميزانية 2013 / 2014 شملت الشرائح التجارية والصناعية وكبار المستهلكين من خلال خفض الدعم عنهم بما يعادل 0.75 في المائة من إجمالي الناتج القومي. ثم خفض الدعم مرة أخرى بنحو 0.4 في المائة و0.3 في المائة من إجمالي الناتج القومي وذلك من ميزانية عامي 2014 / 2015 و2015 / 2016 على التوالي. وبعدها سيتم مراجعة أداء وفعالية خطة رفع الدعم وآثارها على اقتصاد البلاد قبل إقرار الخطة التالية. هذا الإجراء وحده ساهم في انخفاض مستويات التضخم الذي وصل إلى 17.6 في المائة في عام 2009 إلى نحو 10 في المائة في العام الحالي. كما ساهم في تحسين توقعات تسارع نمو الناتج الإجمالي من 3.1 في المائة لهذا العام إلى 3.7 في المائة في العام المقبل إضافة إلى تخفيف الضغط على الموازنة الحكومية من خلال رفع الدعم عن أسعار الطاقة ولو جزئيا. هذا إضافة إلى تحسن أداء الصناعات التحويلية الذي كان أفضل من المتوقع نتيجة إجراء تصحيح لبعض السياسات المالية وتخفيف القيود على مصادر الطاقة والتزام إيصالها (إلى حد ما) لمستهلكي الصناعة. هذا غير إعطاء الأولوية لاستخدام الغاز المحلي والفحم بدلا من النفط المستورد في توليد الكهرباء كبدائل أقل تكلفة وأكثر كفاءة خاصة أن باكستان لم تتمكن من استخراج نصف مخزون الغاز بسبب ضعف جدوى الاستثمارات اللازمة.
إضافة إلى إعادة هيكلة التعرفة للطاقة، هناك تدابير أخرى فيما يخص تحسين إدارة التحصيل وجودة الخدمة. فقد أجبرت السلطات المعنية شركات التوزيع بالتوقيع على "عقود أداء" يتم من خلالها تخفيض ما يعرف بالفاقد الفني عبر تحسين وضع المنظومة الكهربائية وأيضا تخفيض الفاقد التجاري من خلال تحسين معدلات التحصيل من المستهلكين. وذلك من خلال إلزام شركات التوزيع باستحداث أنظمة مراقبة لمستويات الاستهلاك في المناطق المختلفة لتفادي الاستهلاك الجائر عبر فصل الخدمة. وإلزامها كذلك بتنفيذ خطة لإزاحة الأحمال (فصل التيار نتيجة عدم توازن الأحمال مع مستوى الإمداد المتاح) عن المناطق الأقل التزاما بسداد قيمة استهلاك الخدمة بدلا من العشوائية والمحاباة. يعاني قطاع الكهرباء أيضا ظاهرة عدم دفع الفواتير نظير استهلاك الطاقة خاصة من العائلات صاحبة النفوذ وكبار الموظفين الحكوميين. فما كان من وزير الطاقة والمياه الذي ينتمي للحزب الحاكم إلا أن أمر شركة الكهرباء -لأول مرة في تاريخ البلاد- بفصل التيار عن مقر الرئيس ومكتب رئاسة الوزراء ومبنى البرلمان ومقر الإقامة الرسمي لكبير القضاة وكثير من المكاتب الأخرى الذي وعد بالقضاء على ظاهرة عدم دفع الفواتير بلا تمييز حتى يسددوا الأموال المستحقة عليهم (أبريل 2014).
إجمالا اعترف صندوق النقد الدولي في تقريره الدوري بأن هناك تقدما ملموسا ومهما في تنفيذ سياسة الطاقة الوطنية لباكستان لكن ما زال الطريق طويلا لإصلاح أنظمة القطاع وتحسين المستوى الإداري والتشغيلي خاصة فيما يتعلق بتحصيل شركات الإنتاج والتوزيع لمستحقاتها وذلك لصعوبة رصد الاستهلاك غير المشروع. هذه الإجراءات على الرغم من استدامتها إلا أن من أبرز التحديات التي تواجه تنفيذها أن المستهلك البسيط لن يشعر بتحسن مستوى الخدمة قبل عدة سنوات. هذا عدا التحديات الإدارية التي من أبرز أشكالها مقاومة تنفيذ إجراءات التغيير.
( الاقتصادية 2014-08-29)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews