أزمة الكهرباء في باكستان .. تحديد أولويات إصلاح القطاع
المقال السابق أشار إلى أنه على الرغم من التحديات الاجتماعية والسياسية وما تشكله من ضغوط غير اعتيادية على الاقتصاد الباكستاني، كان من أبرز وعود حكومة نواز شريف - المنتخبة في أيار (مايو) 2013- بأنها ستقدم كل ما يخدم إنقاذ قطاع الكهرباء كأولى أولويات الحكومة الجديدة. تربع هذا القطاع الحساس في أعلى قائمة أولويات الحكومة ما زال قائما حتى بعد الاضطرابات الأمنية الأخيرة عندما هددت حركة طالبان باكستان بضرب المنشآت الأجنبية في البلاد، ودعوتهم الأجانب إما مغادرة البلاد وإما لوم أنفسهم. هذا التهديد الأخير، إضافة إلى حادثة هجوم مطار كراتشي الأخيرة التي- على حسب المحللين- كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير؛ لأنها أجبرت- تلك الحادثة بالذات- الحكومة أن تتنازل عن سياسة المفاوضات، وتتبنى توجه الجيش لمواجهة طالبان بالقوة؛ لذا أصبح وجود وانتشار آلاف أفراد الجيش داخل المدن منظرا مألوفا ومؤشرا قويا على وجود قلق فعلي من زيادة احتمال شن هجمات إرهابية مرتقبة. يأتي هذا القلق بالتزامن مع استعداد جيش الغزو الأمريكي للانسحاب من أفغانستان، الذي سيكتمل نهاية هذا العام 2014. وبعض المحللين أشاروا إلى أن المغزى الحقيقي من طلب الحكومة نشر الآلاف من أفراد الجيش هو التصدي للمظاهرات التي دعت إليها حركة العدالة يوم الجمعة (14 أغسطس) في العاصمة إسلام أباد، وذلك بقيادة عمران خان- لاعب الكريكيت الأسطوري- التي تطالب باستقالة الحكومة فورا لتلاعبها بنتائج الانتخابات. هذه الدعوة جاءت بعد التفاهم مع حزب معارض آخر بقيادة طاهر القادري، الذي يدعو إلى إصلاحات جذرية تعزل الإقطاعيين من ملاك المزارع والتجارة عن التدخل في سياسة الدولة للضغط على الحكومة، وذلك من خلال المشاركة في المظاهرات نفسها التي لم تخل من مظاهر العنف. شهدت المظاهرات إطلاق نار على موكب عمران خان كدليل آخر على مستوى الضغط الذي يواجه استقرار الحكومة الحديثة نسبيا، وتأثير ذلك كله في كفاءة إدارة أولوياتها، بل هناك من المحللين من يشير إلى أن وضع البلاد المتأزم والانفلات الأمني قد يدعو إلى تدخل الجيش إلا إذا أقال نواز شريف الحكومة الحالية، وقام بتشكيل حكومة ائتلافية مكونة من أحزاب معارضة. وفي حال عدم التفاهم قد تزداد الأوضاع سوءا، فتضطر الحكومة أن تعلن عن انتخابات جديدة قبل موعدها في 2018.
ما يهمنا في هذه الأحداث الإشارة إلى أن مستوى الاستقرار الأمني والاجتماعي في باكستان يتدهور بتسارع قد يعطل تنفيذ خطوات إصلاح قطاع الكهرباء في المستقبل القريب. لكن في الوقت الحالي ما زالت البلاد تمضي قدما نحو إجراء إصلاحات جذرية، حيث عانى القطاع- كغيره من القطاعات الأخرى كافة- تدهورا مستمرا، أسهم في الإطاحة بالحكومة السابقة، إلا أن أكبر تحدٍّ يواجه الحكومة الحالية أن هذه الإصلاحات لن يشعر بنتائجها المستهلك البسيط قريبا. أحد المواطنين- وهو سائق شاحنة- قال إنه انتخب حزب نواز شريف خصيصا لحل أزمة انقطاع الكهرباء المتكرر، ولن يفكر في إعادة انتخابه مجددا، وذلك لأن أجهزته الكهربائية تعطلت- لرداءة وضعف خدمة الكهرباء- وأصبح يستخدم ثلاجته لتخزين الملابس. وغيره الكثير من الناخبين أصيبوا بخيبة الأمل نفسها. الرهان على إصلاح قطاع بنيوي ضخم بحجم قطاع الكهرباء فخ تقليدي يقع فيه الكثير من الساسة، وذلك لأن المدة المطلوبة لشعور المستهلك بتحسن مستوى الخدمة لن تقل عن عدة سنوات، بل إن بعض التحليلات ذهبت إلى إظهار فشل نواز شريف في تخفيض معدلات انقطاع التيار الذي وصل إلى أكثر من 12 ساعة في المدن، وأكثر من 20 ساعة في الأرياف خلال فترة الصيف الذي تزامن مع شهر رمضان المبارك، وأنه بدلا من أن يجد حلا مستداما لهذه الأزمة المستمرة، ذهب إلى المملكة العربية السعودية في زيارة خاصة خلال العشر الأواخر من رمضان. إلا أن بعض المحللين أشاروا إلى أنه ذهب إلى المملكة سعيا في استقطاب رؤوس أموال سعودية للاستثمار في قطاع الكهرباء.
ومن حسن حظ الحكومة أن القرض الذي تم اعتماده من صندوق النقد الدولي فور تسلُّم الحكومة إدارة الدولة ارتبط بشروط إصلاح وإعادة هيكلة للعديد من القطاعات وعلى رأسها قطاع الطاقة. على الرغم من تحفظ الكثير من الاقتصاديين- ولأسباب مقنعة- من أسلوب سياسة الإقراض لصندوق النقد الدولي فيما يخص ربط اعتماد تمويل الحكومات بإجراء إصلاحات توصف كثيرا بأنها راديكالية في قطاعات الدول المقترضة، إلا أني شخصيا من مؤيدي هذه السياسة إلى حد كبير، إذا ما تم تشخيص أسباب وجذور تحديات قطاعات الدولة، واقتراح آليات تتناسب وظروفها لتدارك تلك التحديات وإن كانت قاسية. فالسماح للدولة بالاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية دون النظر لمعالجة مشكلاتها الهيكلية، قد يسهم في إغراقها في مزيد من الديون، الأمر الذي سيتسبب حتما في تعطيل تنميتها اقتصاديا واجتماعيا على المستوى القريب.
هذا لا يعني أن قرض صندوق النقد الدولي (6.6 مليار دولار)، والقروض الخارجية الأخرى المقدرة بـ 53 مليار دولار (إجمالي الديون الخارجية في عام 2014) ستفي باحتياجات باكستان المالية كافة. فحاجة باكستان إلى دفع متأخرات منتجي الكهرباء وحدهم وصلت إلى خمسة مليارات دولار. المغزى هنا أن التشخيص الصحيح والأهم من ذلك تنفيذ خطط إصلاح قطاعات اقتصاد الدولة، وقد تأتي بنتائج ومؤشرات إيجابية، وإن لم يشعر بها المواطن خاصة في مراحلها الأولى. ففي أثناء مفاوضات اعتماد القرض، اتفق صندوق النقد الدولي مع حكومة باكستان فيما يخص إصلاح قطاع الكهرباء على أن يتم التركيز على أمرين اثنين: إعادة هيكلة التعرفة وتحسين إدارة التحصيل. سنرى في المقال القادم كيف تم تشخيص هذين الجانبين، وما الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها باكستان لإنقاذ قطاع الطاقة.
( الاقتصادية 22/8/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews