تقرير هيئة السوق .. خارج المنافسة
إذا افترضنا جدلا أن هناك منافسة بين الجهات الحكومية أو شبه الحكومية في قضايا الحوكمة، خاصة موضوع الإفصاح والشفافية، فأعتقد أن هيئة السوق المالية خارج هذه المنافسة تماما، فلن تستطيع أقرب هيئة أو جهة حكومية وحتى الجامعات أن تصل إلى نصف الطريق الذي قطعته الهيئة، وحق للهيئة أن تكون كذلك فهي التي تسعى منذ إنشائها إلى رفع مستوى الحوكمة في الشركات فلا بد لها إذا أن تذوق من الكأس التي ترفعها. ولذلك أشيد بالهيئة أنها تفعل ذلك فعلا فهي تصدر تقريرها السنوي عن عام 2013 في حلة أنيقة جدا، ولست أقصد الطباعة "الفاخرة"، لكني أقصد المعلومات الغنية والتفصيلات الدقيقة والإفصاح الاختياري. الذي بدأ بالسيرة الذاتية لأعضاء مجلس الإدارة ثم بيان واضح تؤكد فيه أن التقرير يأتي استجابة لمتطلبات نظام السوق المالية، ثم تعرض الهيئة الهيكل التنظيمي لها في صفحة كاملة، وهنا سأتوقف كثيرا.
فتصميم الهيكل التنظيمي جاء نموذجيا بشكل لافت فهو يضع مجلس الهيئة في قمة الهيكل ليمثل أعلى سلطة ومسؤولية في الهيئة، وهذا لا غرابة فيه، لكن عندما ترى المجلس وقد تشكلت من تحته اللجنة الاستشارية ولجنة المراجعة وإدارة المراجعة الداخلية والأمانة العامة تفهم ماذا أقصد. فلقد وضعت هذه اللجان وهذه الإدارات ضمن أعلى مستوى بعد صلاحيات المجلس، أي أنها في مستوى مسؤولية متوازية مع الجهاز التنفيذي، وأنه يحق لهذه اللجان والإدارات التواصل مباشرة مع المجلس دون الرجوع إلى إدارات الجهاز التنفيذي، وهذه قفزة هائلة للهيئة إداريا، ونجاح كبير ضمن مشروع حوكمتها. ولعلي أخص بالذكر موضوع المراجعة الداخلية ولجنة المراجعة، فالهيئة تضع هذا النشاط في موضع استقلال مثالي جدا، ويسرني بهذه المناسبة أن أرفع لمجلس الشورى تجربة هيئة السوق المالية ليعيد مناقشة استقلال إدارة المراجعة الداخلية، وكيف أن هيئة السوق المالية استطاعت تعريف مجلس الإدارة كأعلى سلطة فعلا بغض النظر عن الجهاز التنفيذي ومن يديره. بقي على هيئة السوق المالية أن تخطو الخطوة الصعبة جدا في الوصول بحوكمتها إلى نقطة اللاعودة، وأن تصل إلى مستوى النموذج الأعلى بفصل وظيفة رئيس مجلس الإدارة عن وظيفة الرئيس التنفيذي.
في جانب المعلومات تقدم الهيئة في تقريرها النموذجي تفاصيل رائعة سواء لأولئك الناقدين أو الباحثين أو حتى الراغبين في نسخ التجربة، فالهيئة وصلت إلى مستوى 98 في المائة من التوطين، وهذا رائع بكل المقاييس، ليس لأن الهيئة تسهم في حل مشكلة البطالة، بل لأنها آمنت بالكفاءات السعودية القادرة على العمل في هيئة بمثل السوق المالية "وللمعلومية فقد حصلت الهيئة على أفضل بيئة عمل لعدة سنوات"، وأنا شخصيا أعرف أن الهيئة تستثمر الكثير في تنمية هذه الكفاءات، لكن التقرير جاء واضحا في هذا الجانب أيضا، فقد أفصح بجلاء عن كل ما يتعلق بتدريب هؤلاء النخبة. كما وضحت الهيئة تفاصيل البنية التحية للهيئة فكم من المباني مستأجرة وكم منها مملوكة وأين.
ستعجبك في التقرير معلومات مثل عدد هجمات الفيروسات التي تعرضت لها الهيئة خلال عام واحد "16672"، كما ستعرف أن رئيس الهيئة قد حضر 48 اجتماعا للمجلس من أصل 55 اجتماعا أي أنه غاب عن سبعة اجتماعات. وأن عدد الاجتماعات عند حد النصاب الأدنى بلغت خمسة اجتماعات، بل إن الهيئة قد أفصحت عن اسم العضو الأكثر غيابا بـ "13" اجتماعا.
في جانب الرقابة على السوق المالية تضيف الهيئة في تقريرها الكثير من المعلومات الإحصائية حول طريقة رقابة السوق "من خلال برنامج سمارت لتحليل التداولات" الذي أصدر 26251 تنبيها والذي انتهى إلى 43 حالة اشتباه بمخالفات، سيخبرك التقرير بمعلومات سريعة لكنها مهمة "خاصة للباحثين" مثل أن عدد الشركات المدرجة التي صدر لها تقرير مراجع خارجي متحفظ قد بلغت 46 شركة من أصل 159، بينما وردت تحفظات على 49 شركة في القوائم ربع السنوية أي أن هناك ثلاث شركات تجاوزت مشكلات التحفظ في نهاية السنة. ستعرف أن إجمالي أعضاء مجلس الإدارات في الشركات السعودية بلغ 1297 عضوا منهم "536" عضوا بصفة غير تنفيذي و"620" بصفة مستقل بينما بلغ التنفيذيون "141"، فالأعضاء المستقلون في الشركات السعودية يمثلون أغلبية كبيرة، وهذا مؤشر جيد لمستوى تقدم الحوكمة في الشركات. ستعرف أن مجالس الإدارات اجتمعت 843 اجتماعا، بمعدل 5.4 اجتماع لكل شركة، وأن شركات قطاع النقل هي الأكثر اجتماعات بمعدل سبعة اجتماعات سنويا. ستعرف أن هناك 521 عضوا في لجان المراجعة منهم 220 عضوا من خارج المجالس و191 عضوا مستقلا. بقيت مشكلة في تقرير الهيئة هنا هي أن المقارنات انحصرت في سنتين، ومن المعلوم لزيادة قيمة المعلومات أن تتم قراءتها ضمن سلسلة زمنية متوسطة أو طويلة نسبيا.
من خلال التقرير ستعرف أن الهيئة قد حققت في 287 مخالفة وأنهت 99 منها، وأن مخالفات الإفصاح هي الأكثر 56 مخالفة، 39 مخالفة عن التداول خلال فترة الحظر، 41 مخالفة للائحة صناديق الاستثمار، 49 مخالفة لممارسة أعمال الأوراق المالية دون ترخيص عشر حالات عن تغير في الملكية دون إبلاغ الهيئة حالتان تم الكشف عنهما تمثلان تداولا بناء على معلومات داخلية.
وأخيرا تقدم الهيئة قوائمها المالية بإفصاح متميز جدا وواضح بالنسبة لجهة حكومية، حيث انخفضت إيراداتها بنسبة 23 في المائة على الرغم من جهودها في تحقيق وفر في مصروفاتها بنسبة 22 في المائة إلا أن المحصلة النهائية قد انتهت بعجز قيمته 66 مليون ريال. كما ستجد معلومات مفصلة عن الإيرادات فهي تحصل على إيراداتها من خلال "تداول" التي منحتها 347 مليونا، كما ستجد إفصاحات في موضوعات شتى حتى في قروض الموظفين والمشاريع التي تحت التنفيذ، خاصة مشروع مقر الهيئة في مركز الملك عبد الله الذي أثار جدلا واسعا خلال السنوات الماضية، حيث بلغ ما تم إنفاقه على المشروع 1297 مليونا حتى 2013، كما تم تجهيز أدوار الهيئة في المركز بقيمة 624 ألف ريال. ستجد تفصيلا عن الرواتب والمزايا حتى مصروفات الرحلات والمؤتمرات، ومصروفات التوظيف كلها أفصحت الهيئة عنها بكل جدارة، بل ستجد حتى مصروفات الضيافة وحتى القرطاسية والهاتف وأتعاب أعضاء اللجان.
نعم أشعر بك عزيزي القارئ وقد شعرت بالملل من هذا المقال، نظرا لتحوله إلى شرح ممل لقائمة مالية أو تقرير، وكنت تتوقع مني هجوما لاذعا أو البحث في أخطاء التقرير وعيوبه، ولا شيء في هذه الدنيا بلا عيب، ولكن الرسالة التي أريدها أن تصل، هو حجم العمل الذي كان وراء هذا التقرير، إنه يمثل إضافة نوعية للإفصاح الحكومي الذي نحتاج إليه ونتمنى أن تصل إليه جميع الهيئات، خاصة الجامعات والمؤسسات العامة. وإذا كانت قيمة المعلومات تقاس بكميتها وجودتها وتوقيتها وطريقة عرضها فإن هذا التقرير يمثل معلومات قيمة وثمرة ناضجة لنظام حوكمة جيد تسعى الهيئة منذ سنوات للوصول إليه.
( الاقتصادية 15/6/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews