المغرب العربي بين الإرادة والعوائق
أذاعت وكالات الأنباء، في نهاية الأسبوع الماضي، نبأ «تأسيس رابطة علماء المغرب العربي من مدينة إسطنبول من قبل مجموعة من السلفيين من المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا». ويرى أحد الصحافيين المغاربة، في مقال تحليلي يلتمس فيه فهم ما حدث، أن الأمر يعتبر سابقة أولى من نوعها تؤسس لأمرين: «تجميع السلفيين في المنطقة، وإنشاء مؤسسة علمية منفصلة عن وصاية المشرق». والواقع أن الأمر - من وجهة نظرنا - يكتسي دلالة أبعد مما يذهب إليه المحلل المشار إليه، دلالة مزدوجة. أما الدلالة الأولى، فهي واضحة للعيان، فهي لا تستوجب بذل جهد كبير في الفهم والإدراك. والأمر الواضح هو أن المغرب العربي (أفقا للتفكير ومجالا للفعل بالنسبة لشعوب المنطقة) واقع ليس يقبل التمويه والإخفاء. ففي الوقت الذي لا يزال البعض يثير الاستغراب - بل وربما يظهر الاستنكار - في الحديث عن المغرب العربي، نلاحظ أن الإشارات ما تفتأ تتوالى من قبل مؤسسات المجتمع المدني في منطقة المغرب العربي. وهذه الدعوة إلى تأسيس تنظيم مغاربي يلتئم فيه شمل علماء المنطقة أحد تجليات رغبات «مغرب الشعوب» ضدا على «مغرب الدول» (وتلك دعوة ظلت إحدى المحطات الإذاعية الرسمية في إحدى دول المنطقة تروج لها زمنا غير قليل). وأما الدلالة الثانية لحدث الإعلان عن تأسيس «رابطة علماء المغرب العربي» من العاصمة التركية، فهي اعتراف ضمني بفشل المجتمعين في عقد لقاء يستهدف غرضا مماثلا انطلاقا من إحدى العواصم الخمس من الدول المغاربية. وإذا كان المعلق الكريم (المشار إليه أعلاه) يرى في الواقعة رغبة الإفلات من إسار الوصاية المشرقية على المغرب العربي، فنحن نذهب إلى أن في الأمر انحرافا يقيم تقابلا بين ما كان عربيا من جهة وما كان إسلاميا من جهة أخرى. وإن من العسير على المرء، في ضوء الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط عامة والعالم العربي خاصة وفي المواقف التي تنفرد بها السلطة الحاكمة بالعاصمة القديمة للخلافة العثمانية، أن ينظر إلى حدث الاجتماع في إسطنبول تحديدا خارج السياق المذكور، بعيدا عن اعتبارات تعلو على كل منحى آيديولوجي وتسمو فوق كل الحسابات الاستراتيجية التي يوجد علماء الأمة في حال من البراءة تصرفهم عن الوقوع على مراميها البعيدة. وعلى كلٍّ، فليس هذا ما نقصده بهذه الإشارات، وحيث كان كل فعل أو موقف يحمل بالضرورة رسالة تستدعي القراءة وتستوجب التأويل، فإن أخص ما نستخلصه من الاجتماع ومكان الإعلان معا هو أن مستقبل المغرب العربي (الواقع، والأفق، والهدف) قد يغدو معرّضا لأن ترتسم آفاقه وخطواته العملية خارجا عن منطقة المغرب العربي ذاتها. أما إذا كان الأمر يتعلق - كما أشارت إلى ذلك قصاصات الأخبار - بتجمع من ينسبون أنفسهم إلى «السلفيين» (بغض النظر عن المعنى المراد بالسلفيين، وكذا القصد من نعت السلفيين) دون باقي علماء الأمة (= علماء الإسلام الذين لا يرون في إلحاق نعت ما من النعوت بحصيلتهم المعرفية ومسؤوليتهم الدينية)، متى كان كذلك فتلك حال أخرى تستدعي قولا مختلفا، ولكل مقام مقال. لا أحسب أننا في حاجة إلى مزيد بيان للحديث عن المغرب العربي أفقا للعمل والتفكير، ولست أجد - بشهادة ما يستجد من أحداث - أن المرء يقع في الحرج أو يسقط في المهاترات والمبالغات إذ يورد للمغرب العربي ذكرا، وإنما الأقرب إلى الصواب والمنطق والواقعية السياسية معا أن يكون التساؤل، بالأحرى، تساؤلا عن العوائق التي تقوم في وجه الخطوات العملية نحو المغرب العربي كيانا أو مجموعة (على غرار المجموعة الأوروبية مثلا). والظاهر أن هنالك اليوم أكثر من جهة واحدة ترغب في تحقق المغرب العربي، بيد أنها تريد لذلك المغرب الكبير أن يتم وفقا لحساباتها وتبعا للأجندة، التي يكون من الغباء أن ينتظر منها الإعلان عنها. ما دامت القابلية والإمكان متاحين معا، فإن الإرادة تمتلك أن تنتقل من هذه الجهة إلى تلك. هل تدق هذه المعادلة البسيطة عن أفهام عتاة التدبير والقدرة على اتخاذ القرار الشجاع والمناسب في الوقت المناسب؟
لا شك في أن أولى وأخص العلامات الدالة على حضور الإرادة في العمل السياسي هي البحث عن العوائق بغية الإحاطة بها، تمهيدا لمجاوزتها والارتفاع فوقها. ومتى شئنا أن نضرب بما ينعت في العرف الدبلوماسي بلغة الخشب، ومن ثم متى كنا ننشد القول الصريح والفعل المباشر: احتراما لشعوبنا، وتقديرا للمسؤولية التي تطوق بها أعناق أصحاب الثقافة والرأي، وإرادة للإصلاح والتقدم - فنحن نقول إن العوائق الأكثر مدعاة للتكسير والمجاوزة حين الحديث في قضية المغرب العربي ثلاث، بيد أنها تتبادل الفعل والتأثير فليس يمكن فصل إحداها عن الأخريين إلا في مستوى العرض، لا في مجال الفهم والتحليل. العائق الأول: عائق التدبير السياسي، أو لنقل عنه إنه عائق البت في قضايا التدبير المحلي، أو لنقل في عبارة أخرى: الموانع التي تقف في وجه الحياة السياسية السليمة، تلك التي تقوم على التعدد والتمثيلية الحق، وتستوجب، في نهاية التحليل، إقامة صروح أبنية جهوية موسعة تملك القدرة على تقديم الحلول العملية للكثير من الأسئلة في دول المغرب العربي الخمس. هو، في كلمة جامعة، عائق الديمقراطية الضعيفة أو الغائبة. العائق الثاني (وهو في مناطق من المغرب العربي أكثر منه قوة وحضورا في مناطق أخرى) هو عائق ثنائية تمتلك بعضا من جوانب الصحة، بيد أن فيها الكثير من دواعي الوهم والقول الفاسد (كما يقول المناطقة): القصد منها ثنائية العروبة (أو العربية بالأحرى) والأمازيغية. ولعل أخطر ما في هذا العائق الثاني هو أننا، في لا مبالاة ودون كبير وعي، ندفع به جهة الخفاء والبعد عن القول والظهور، بينما هو يسلك طريقا خطيرا مدمرا يستهدف الإنسان المغاربي هوية ووجودا. وأما العائق الثالث، وما أكثر ما يحاط بسياج ثقيل من القول الدبلوماسي! فلست أجد له اسما أو نعتا آخر إلا أن يكون عائق خصومة طالت وأخذت الحيل والسبل تضيق في وجهها يوما بعد يوم.
عائق الخصام المغربي الجزائري. عائق خصومة لا نكاد نجد لأسبابها مثيلا في التاريخ، خصومة يعجز فيها الملاحظ والمستمع أن يتبين الدواعي المنطقية والأسباب التي يملك صاحبها أن يخطها في صورة مطالب وبنود دقيقة ومقروءة.
(المصدر: الشرق الأوسط 2014-06-14)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews