سباق عالمي لإعادة ابتكار الدولة
تملك المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مجموعة مفضلة من الإحصائيات، منها أن دول الاتحاد الأوروبي الـ28 تمثل 7 في المائة من سكان العالم، و25 في المائة من الناتج، و50 في المائة من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية. والمعنى الضمني واضح بما فيه الكفاية؛ إذا كانت أوروبا ستتنافس مع القوى الاقتصادية الصاعدة في الشرق والجنوب، سيكون عليها تقليص الدولة.
جون ميكليثويت وأدريان وولدريدج تناولا الموضوع باستمتاع في كتابهما "الثورة الرابعة". يستشهد الكاتبان بميركل بنوع من الاستحسان، وهما يحملان راية أسواق ذات حرية أكبر، وتخصيص أكثر، ودولة أصغر - مع مضامين أكثر تطرفاً مما يمكن أن يفكّر فيه أغلب مستشاري ألمانيا ذوي التوجهات الإصلاحية.
وحجة المؤلفين مألوفة بما فيه الكفاية: يتم تجاوز ديمقراطيات الغرب المتصلبة من قِبل منافسين أصغر حجماً وغالباً استبداديين، وإذا أراد الغرب الازدهار ينبغي له التعلّم من ديناميكية الدولة الصغيرة في الدول الصاعدة.
الصفحات الأولى من الكتاب لا لبس فيها. فالأمم الغنية - الولايات المتحدة واليابان إضافة إلى أوروبا - تعاني "صفة الضخامة"، والحكومة "ذات الحجم الكبير" هي عبارة عن مربية منتشرة في كل مكان في هذه البلدان. وورد في الكتاب: "أن الرجل الإنجليزي العاقل الذي يحترم القانون لا يمكن أن تمر ساعة لا يلاحظ فيها وجود الدولة".
حسناً. يجب أن اعترف أنني لم أصادف اليد الخانقة للحكومة أثناء كتابة هذه المراجعة. لكن، كما يليق برئيس تحرير ومدير تحرير مجلة، لا مجال للشك في توجهها الليبرالي بشأن حرية السوق مثل مجلة "الإيكونومست"، يبدأ ميكليثويت وولدريدج بإدانة لا تتزعزع، ثم جمع الأدلة تبعاً لذلك. وفي بعض الأحيان يجرفهما الحماس. وإذا أردنا إعطاء وصف قاسٍ لهذا النهج، فهو عبارة عن صناعة الأدلة المستندة إلى السياسة.
إن تحليلهما لتقلّبات الحكومة بالتأكيد كان ساحقاً، بدءاً من رؤى كتاب "ليفياثان" للمؤلف توماس هوبز، ومجيء عصر الدول الأوروبية (الثورة الأولى)، والسفر عبر ليبرالية الدولة الصغيرة لإنجلترا الفكتورية (الثانية) والتباكي على الطريق المؤدي للحكومة الكبيرة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (الثالثة).
الأبطال هم حاملو نبراس الحرية الفردية، مثل جون ستيوارت ميل، وجيرمي بنثام، وتوماس باين. أما الأشرار فهم روّاد نظرية "الحكومة مناسبة لك" مثل سيدني وبياتريس ويب، وجون مينارد كينز، ووليام بيفريدج.
لقد تم تقديم الحجة بأناقة، مع فلسفة الصورة الكبيرة والاقتصاد السياسي التي تتخللها تحويلات نابضة بالحياة نحو الاقتصادات الصاعدة في العالم. في الكتاب نلتقي بكبار البيروقراطيين الشباب في شنغهاي، الذين يخططون لاستعادة سمعة الصين التي كانت فريدة من نوعها في الإدارة الفعّالة، وأصحاب المشاريع الطبية في بنجالور الرائدة في أساليب أفضل، وأرخص، في جراحة القلب المفتوح.
أما بالنسبة للغرب، فقد قدّمت الأزمة المالية العالمية وفترة الركود اللاحقة للمؤلفين الكثير من الذخيرة. فمستويات الديون مرتفعة في كل مكان تقريباًً. والجمود السياسي ترك الولايات المتحدة في وضع مالي لا يُحتمل ونقص مزمن في الاستثمارات في البنية التحتية الأساسية. في الوقت نفسه، الحكومات الأوروبية تكافح العجز ومعدلات البطالة المرتفعة جداً.
نجاح أحزاب اليمين الشعبوية في الانتخابات الأوروبية الأخيرة يبدو أنه يُشير أيضاًً إلى القيود التي تفرضها الديموقراطية حتى على حكومات حريصة على تقليص حجم الدولة. كذلك من غير المرجح أن يصبح السكان الكبار في السن، الذين يستهلكون رعاية صحية أكثر ويتوقعون المزيد من الرعاية الاجتماعية، أقل تطلباً.
مع ذلك، حماسة المؤلفين التبشيرية منظورٌ يحرف الأشياء. فلأسباب غير واضحة تماماً، يرى الكاتبان أن الثورة الاجتماعية الكبرى في الستينيات هي إلى حد ما غلطة الحكومة الكبيرة. وقد يعد كثير من الناس أن الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والمساواة الأكبر للنساء والمثليين، والهجوم على نخبة المؤسسات، بمثابة تقدّم وليس نكسة لقضية الحرية الفردية.
وهناك شوق عرضي للتسلّط، إذ يتم تفضيل سنغافورة، الوجهة الغريبة لكن المتكررة لمجموعة صغيرة من الليبراليين، على كاليفورنيا التي توفر حكومتها المختلّة وظيفياً "المثال المُطلق لمخاطر الديموقراطية". لكن ألم تكن كاليفورنيا مهد الثورة التكنولوجية؟
المؤلفان محقّان في أن الغرب يحتاج إلى التكيّف. وفي بعض الحالات هذا يعني تسخير تكنولوجيا جديدة لتوفير الخدمات العامة التي تتطلب، في العديد منها، إعادة التفكير في تقديم الرعاية الاجتماعية. لكن الحجم ليس كل شيء – ولننظر مثلاً، إلى نجاح الدول الاسكندنافية في أوروبا. ما يهُم هو الفاعلية.
الناخبون الأوروبيون الذين خرجوا بالملايين للأحزاب المناهضة للمؤسسة لم يكونوا يحتجون على دولة ضخمة بإفراط ولا، بشكل عام، مطالبين بإنفاق وضرائب أعلى. غضبهم كان موجهاً إلى حكومات واتحاد أوروبي فشلا في حمايتهم من عدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي.
إن قصة العصر لا تتعلق كثيراً بالدولة ذات الحجم الكبير، لكن بالحكومات التي أضعفتها كثيراً تحوّلات القوة الكامنة في العولمة. حدود يسهل اختراقها، وشركات متعددة الجنسيات مترامية الأطراف، واتصالات رقمية، وتجارة وسفر متنامٍ عبر الحدود، كل هذا أدى بشكل كبير إلى الحد من قدرة الحكومات على توفير الأمن لمواطنيها. هنا يكمُن التحدي الحقيقي في هذا العصر.
(المصدر : الاقتصادية 2014-06-11 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews