أوكرانيا: السياسة في مواجهة الاقتصاد
يحتفي الواقعيون Realists هذه الأيام بعودة أجواء الحرب الباردة من جديد، ويؤكدون أن ما يشهده العالم من توتر ينذر ببداية حقبة جديدة من القطبية، ويعيدون تذكير الناس بصحة مقولاتهم، من أن القوة مازالت هي الأساس، وأن الدولة مازالت هي الفاعل المركزي في السياسة الدولية، وأن القوة العسكرية لها الصوت الأعلى، أما القيم المشتركة والرغبة في التعاون فلا تعدوا أن تكون مجرد شعارات وليست محددات للعلاقات بين الدول، والأهم أن الاقتصاد مازال يشغل منزلة أدنى من السياسة.
ويتوجه الواقعيون بخطابهم المتشفي هذا بالأساس إلى الليبراليين ممن استحوذوا على ثقة كبيرة منذ نهاية الحرب الباردة، وساد خطابهم الذي يؤكد أن التنافس العسكري قد أصبح من مخلفات الماضي، وان العالم سيتكلم لغة واحدة هي لغة التعاون الاقتصادي، وان الدول ليست هي الفاعل الوحيد وإنما هناك المؤسسات الاقتصادية والمنظمات الدولية، وأن القيم يمكن أن تعمل على تقريب الشعوب، كما أن المصالح الاقتصادية المتبادلة يمكنها أن تحول بين الدول وبين السلوك العداوني إزاء بعضها البعض.
أما مناسبة عودة هذا الجدل فهو اشتعال الأوضاع في أوكرانيا بين معسكري الحرب الباردة؛ روسيا والغرب. فالدراما الساخنة في أوكرانيا لم تهدأ بهروب الرئيس الموالي لموسكو "فيكتور يانكوفيتش" في أعقاب المظاهرات الحاشدة التي اندلعت ضده، ولكنها ازدادت بعد أن دخلت روسيا على خط المواجهة، محرضة الأوكرانيين الموالين لها على إجراء استفتاء ترتب عليه انفصال إقليم القرم عن أوكرانيا وانضمامه إلى روسيا، تلى ذلك تنظيم استفتاء آخر في مقاطعتين في الشرق، وظهرت النتيجة مرة أخرى بتأييد الانفصال وتوجيه طلب الانضمام إلى روسيا.
في إطار هذا الصراع تبدو روسيا الأقرب إلى الواقعية السياسية، والأجرأ على استخدام لغة القوة، فقد اتخذ الرئيس الروسي قراره بالتدخل العسكري في أوكرانيا في الوقت الذي فشل فيه الرئيس الأمريكي في أن يفعّل تهديده. وكان الرئيس الأمريكي قد حذر الروس من أن أي تدخل سيكون له ثمن، ولكن الثمن الذي قصدته واشنطن لم يزد على مجموعة من العقوبات الاقتصادية. ومؤخرا صرح وزير الخارجية الأمريكي أن بلاده لا تنوي اتخاذ أي إجراء عسكري تجاه روسيا.
أما روسيا التي تعرضت للاجتياح العسكري ثلاث مرات خلال المائتي سنة الأخيرة من جهة الغرب (حروب نابليون، والحربين العالميتين الأولى والثانية) فإنها تفهم خطورة ابتعاد أوكرانيا عن فلكها وانضمامها للغرب، ويشير أنصار المدرسة الواقعية إلى أن روسيا تتصرف وفق الاعتبارات الجيوسياسية التي هي جزء من ثوابت الأمن القومي لأي دولة. وأنها في سبيل تأمينها لن تتردد في التحرك في مواجهة الغرب أو التدخل العسكري في الأراضي الأوكرانية.
وقد مارست روسيا أكثر من استعراض للقوة منذ بداية الأزمة، فخلال الاحتفال بعيد النصر دفعت روسيا بآلاف الجنود من مختلف الوحدات فضلا عن تشكيلات من الآليات وقطع المدفعية، بالإضافة إلى منظومات الدفاع الجوي المتطورة التي تعرضها لأول مرة. كما قام الرئيس الروسي بزيارة إلى مدينة سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم وحضر عرضا عسكريا هناك، كما جرى استعراض أخر بمشاركة القوات النووية والغواصات النووية الإستراتيجية، تم خلاله إجراء تجارب إطلاق صاروخ عابر للقارات، وشاركت فيه الدول الست الأعضاء في منظمة الأمن الجماعي (روسيا وبلاروسيا وكزاخستان وطاجكستان وأوزبكستان وأرمينيا وقرغيزيا) في رسالة مفادها أن علاقة روسيا بحلفائها متينة في مواجهة التحالف الغربي.
أما الردود الغربية فمازالت ترفض التسليم بمقولات الواقعية السياسية التي تتصرف موسكو بموجبها، معتبرة على ما يبدو أن الاقتصاد يمكن أن يقدم حلا أكثر فاعلية وأقل تكلفة. وفي هذا الصدد اتفقت الإدارة الأمريكية مع شركائها الأوربيين على فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على موسكو، وفق قناعة بان هذه العقوبات يمكن أن تؤثر على السلوك الروسي المندفع، أو على أقل تقدير أن تؤثر على الشعب الروسي بالتوقف عن دعم النظام الذي يجلب عليه الأزمات. ومن ناحية ثانية يحاول الأمريكيون والأوربيون تثبيت استقرار أوكرانيا وتعزيز قوة الحكومة الجديدة بمساعدتها اقتصاديا. ويأمل الغربيون أن تساعد في تحقيق هذه الغاية حزمة المساعدات المالية التي تم الاتفاق عليها مؤخرا بقيمة 27 مليار دولار أميركي على سنتين، والتي يمولها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
وبعد التصعيد الأخير، وإقدام المزيد من المقاطعات على الاستفتاء على الانفصال، يستعد الغربيون لجولات جديدة من العقوبات تستهدف المؤسسات المالية الروسية. ولكن النظام الروسي يبدو ناجحا بدرجة كبيرة في التقليل من تأثير هذه العقوبات، خاصة وهو يراهن على أن الولايات المتحدة وحليفتها أوروبا لن يتمكنا من التوصل لاتفاق على تشديد العقوبة أكثر بسبب الاعتماد الأوروبي على موسكو، فالمصالح المتشابكة تجعل الضرر لا يستثني أحدا.
حتى الآن يبدو المشهد في صالح الروس، وتبدو مقولات الواقعيين من أن لغة السياسة أبلغ من لغة الاقتصاد صادقة إلى حد كبير، حتى صار الكثير من المحللين يتوقع أن تؤول النتيجة النهائية للمواجهة الحالية لصالح موسكو، ليس لكونها أقوى من أمريكا، ولكن لكونها قد حسمت خيارها بتغليب اعتبارات السياسة على اعتبارات الاقتصاد، في الوقت الذي يبدو فيه الغرب مكبلا بالعديد من المحاذير التي تمنعه من الرد بحزم على الإجراءات الروسية.
ويبقى السؤال هل تتصرف القوى الغربية من واقع الاختيار من بين بدائل متعددة يمثل الضغط الاقتصادي مجرد واحد منها، أم أن إستراتيجية العولمة وتشبيك العالم التي ابتدعتها أمريكا قد تحولت إلى قيد يغل يدها وحلفائها من الأوربيين عن التصرف إزاء أزمة كهذه، بحيث إنها لم تعد تملك في واقع الأمر إلا أن تتصرف على هذا النحو المتردد وغير الواثق؟
( الشرق 15/5/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews