متطلبات تأمين الاستقرار المالي في دول التعاون

من الاقتصادات القليلة في العالم التي قُيض لها اجتياز الأزمة المالية/الاقتصادية لعام 2008 بمعاناة أقل وسرعة استعادة زخم النمو لافتة، تبرز اقتصادات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي، وبسبب غياب أنظمة ضريبية فيها، فإنها تعتمد على السياسات المالية، وتحديداً دالة الإنفاق الحكومي في إدارتها للدورة الاقتصادية.

وقد تبدو غريبة بعض الشيء حاجة دول مجلس التعاون إلى سياسات مالية منضبطة وهي التي تصنف ضمن بلدان الوفرة المالية العالمية، ما جعلها، كما قلنا، هي ونظيرتها البلدان الصاعدة، أقل تأثراً بكثير بالأزمة المالية العالمية . ولكن، إضافة إلى أن الوفرة المالية لا تنطبق على جميع دول المجلس، فإن جميعها بلا استثناء بحاجة إلى سياسات مالية منضبطة بغض النظر عن آنية وفرتها المالية، وذلك من أجل الإحاطة بأي مخاطر تقلبات أو اهتزازات قبل وقوعها.

تنبع أهمية وضع مثل هذه السياسات من كون دول التعاون تنتمي إلى فئة الدول التي تعتمد على صادراتها من المنتجات الهيدروكربونية، والمعرضة أسعارها للتذبذب صعوداً وهبوطاً، ما ينعكس على حساب مدفوعاتها الخارجي (External balance) وإنفاقها الحكومي، حيث تغري أسعار النفط المرتفعة في فترات الرواج الاقتصادي العالمي، المؤسسات المالية المحلية بإرخاء سياستها الإقراضية، لاسيما لقطاع التنمية العقارية، ما يجعلها عرضة للانكشاف في حال مداهمة الاهتزازات المالية للأسواق العالمية التي تقاربت الفواصل الزمنية لوقوعها.

وكما هو معروف فإنه في البلدان التي تعتمد نظام سعر الصرف الثابت (Fixed exchange rate regime)، كما هو الحال في دول مجلس التعاون باستثناء دولة الكويت، فإن استقلالية السياسة النقدية (Monetary Policy) عادة تكون محدودة (بسبب ارتباط سعر الفائدة فيها بسعر الفائدة لعملة الربط)، لذا تكون السياسة المالية (Fiscal Policy) هي الأداة الرئيسية لإدارة الطلب، حيث يغدو التوجه لمنع تزايد الإنفاق، ضرورياً . فالسياسة المالية تصبح هنا بمثابة خط الدفاع الأول . ومع ذلك فإن هذه السياسة ليست دائماً مرنة بما يكفي لمنع طفرات الإقراض وتكدس المخاطر في القطاع المالي.

وفي ضوء غياب سياسة مستقلة لسعر الفائدة فمن البديهي أن تتكامل سياسات الاقتصاد الكلي الحصيفة وأن تدعم السياسة المالية لضمان عدم التوسع المفرط للقطاع المالي ما يؤدي إلى تسببه في مزيد من الضغوط على الطلب الكلي . وتشمل سياسات الاقتصاد الكلي الحصيفة استخدام آلية ضبط وقائية، مثل انتظام عمليات الرصد المالي والتقرير بشأنها، ووضع ضوابط للتمويل السائل، ووضع سقوف لتركز المخاطر، ومراجعة أنظمة الرقابة، وضوابط إعادة توزيع الأرباح، من أجل منع المخاطر من التكاثر والتراكم.

وفي هذا السياق يكتسب تحديد المسؤوليات المنوطة بالجهات الحكومة المعنية بالإدارة الاقتصادية الكلية أهمية، أملتها خبرة سنوات ما بعد الأزمة المالية لعام ،2008 ومنها الدور الواضح والبالغ الأهمية الذي يجب أن يلعبه البنك المركزي في السياسة الاقتصادية الكلية الحصيفة، وتجنب الهياكل المعقدة والمشتتة (بين عدد من الجهات) المعنية بعمليات التنظيم والرقابة، لأنها تساعد على خفض المخاطر بشكل فاعل، وتحاشي سعة الدور المنوط لجهة بعينها مسؤولة عن إدارة السياسات المالية، وإنشاء لجنة أو مجلس الاستقرار المالي.

( الخليج 12/5/2014 )