تطهير الاقتصاد من أصحاب مداخيل الأموال السهلة
منذ أكثر من خمس سنوات، تتمتع البلدان ذات الدخل العالي بأموال رخيصة بصورة غير معقولة. عاشت اليابان في هذا الوضع لنحو 20 عاماً، وكانت تلك هي الاستجابة الرئيسية من صناع السياسة تجاه الأزمات التي كانت تواجهها البلدان. لا مجال للشك في أن سياسة الأموال الرخيصة مثيرة للجدل. مع ذلك، كما تشير تجربة اليابان، ربما يستمر المأزق فترة طويلة.
من أهم أربعة بلدان من ذات الدخل العالي، كان أعلى سعر للفائدة يضعه البنك المركزي هو في بريطانيا، بنسبة 0.5 في المائة. قبل هذه الفترة لم يسبق قط أن هبط سعر الفائدة عن 2 في المائة. في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وبريطانيا، ميزانية البنك المركزي فيها هي الآن قريبة من ربع الناتج المحلي الإجمالي. وفي اليابان، وصلت إلى نحو نصف الناتج، وما زال في ارتفاع. صحيح أن "الاحتياطي الفيدرالي" يواصل انسحابه التدريجي من برنامج شراء الأصول، وهناك حديث بأن بنك إنجلترا سيرفع قريباً أسعار الفائدة. في منطقة اليورو واليابان ما زال السؤال هو ما إذا كانت هناك حاجة إلى المزيد من التسهيل في السياسة النقدية.
هناك حاجة إلى هذه السياسات غير المسبوقة بسبب النقص المزمن في الطلب الإجمالي العالمي. قبل أن تضرب موجة أزمات ما بعد 2007 الاقتصاد العالمي، قوبل هذا النقص بطفرات ائتمانية غير قابلة للاستدامة في عدد من البلدان. وبعد الأزمات، أدى النقص إلى عجز كبير في المالية العامة ومحاولات مستميتة من قبل البنوك المركزية، لتثبيت استقرار شركات القطاع الخاص وإصلاح أسواق الائتمان المعطوبة، ورفع أسعار الأصول، وفي النهاية أشعال فتيل نمو الائتمان.
نجحت هذه السياسات في تخفيض تكاليف الاقتراض. وجعل هذا من الأسهل تحمُّل الكميات الهائلة من الدين الخاص الموروثة من فترة ما قبل الأزمة، والدين العام الذي تراكم في أعقاب الأزمة. وفي تقرير من صندوق النقد الدولي نشر في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، توصل إلى أن برنامج مشتريات السندات من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 أدى إلى تخفيض العوائد على السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات بحدود 90 و 200 نقطة أساس. وفي اليابان، أدت تدخلات مماثلة من تشرين الأول (أكتوبر) 2010 إلى تخفيض أسعار الفائدة بنحو 30 نقطة أساس، رغم أن عوائد السندات اليابانية بدأت من مستوى أدنى.
كذلك كان لأسعار الفائدة المنخفضة أثر لا يستهان به على توزيع الدخل. في دراسة من معهد ماكينزي العالمي، نشرت في نهاية السنة الماضية، تبين وجود تحولات كبيرة في الدخل من الدائنين الصافين إلى المدينين الصافين. بصورة عامة، استفادت الحكومات والشركات غير المالية. وكانت شركات التأمين وشركات التقاعد والأسر من بين الخاسرين.
البنوك في وضع متوسط. استفادت البنوك الأمريكية بسبب ارتفاع هوامش الفوائد لديها. وخسرت بنوك منطقة اليورو، لأن هوامش الفوائد لديها قد تقلصت. وعانت البنوك البريطانية أيضاً من بعض الخسائر.
بعض التفاصيل لها أهمية خاصة. كانت الحكومات من الفائزين ليس فقط لأن أسعار الفائدة التي تدفعها أدنى مما كانت عليه قبل الأزمة، بل لأن التسهيل الكمي أدى إلى التحويل المالي لقسم لا يستهان به من السندات الحكومية طويلة الأجل.
وفي حالة الولايات المتحدة حوَّل "الاحتياطي الفيدرالي" 145 مليار دولار من المكاسب من التسهيل الكمي إلى الحكومة بين 2007 و 2012. هذا بالإضافة إلى مبلغ الـ 900 مليار دولار الذي وفرته الحكومة خلال الفترة نفسها، من خلال تراجع الدفعات على الفوائد. وفي بريطانيا أنتج التسهيل الكمي مكاسب مقدارها 50 مليار دولار لوزارة المالية، إضافة إلى 120 مليار دولار من مدخرات الفوائد.
مرة أخرى، في حالة الولايات المتحدة، كانت أسعار الفائدة المنخفضة بصورة حادة تشكل 20 في المائة من نمو الأرباح في الشركات غير المالية بين 2007 و 2012. كانت هناك آثار سلبية في برامج المنافع المحددة، وعلى شركات التأمين – خصوصاً الشركات التي كانت تعطي عوائد اسمية مضمونة.
في حالة صناديق التقاعد، تعتبر العوائد المتراجعة على الأمد الطويل مزعجة بصورة خاصة، لأنها تؤدي إلى تخفيض العوائد ورفع قيمة المطلوبات المستقبلية. ربما تضطر كثير من شركات التأمين على الحياة إلى الإفلاس إذا استمرت أسعار الفائدة المذكورة. وهذه أزمة ستنفجر بعد فترة لا بأس بها.
بالنسبة للأسر، العواقب التوزيعية لأسعار الفائدة المنخفضة إلى الدرجة القصوى هي أهم من آثارها الإجمالية. في الولايات المتحدة، الأسر الذي يكون رب العائلة فيها بين 35-44 سنة كانت من المستفيدين من أسعار الفائدة المنخفضة، في حين أن الأسر الأكبر سناً كانوا من الخاسرين. بالمتوسط، استفادت المجموعة الأصغر بمقدار 1700 دولار على شكل صافي الفائدة السنوية، في حين أن الذين هم أكبر من 75 سنة خسروا 2700 دولار. الأكثر أهمية من ذلك أن أغنى 10 في المائة من الأمريكيين يملكون نحو 90 في المائة من جميع الأصول المالية. بالتالي كان الخاسرون الرئيسيون هم نسبياً الأغنياء الذين يعتمدون على الدخل من الفائدة. في الوقت نفسه، استفاد هؤلاء الناس أيضاً من الارتفاعات الهائلة في أسعار السندات وأسواق الأسهم القوية، رغم أن دراسة ماكينزي تجادل بأن أسعار الفائدة المنخفضة ليست أهم عامل وراء المكاسب في الأسهم.
هذه السياسة، رغم أنها كانت مكروهة من بعض الناس، أفضل من البدائل المتاحة. بل إن كينز كانت لديه عبارة لوصف ذلك، وهي "القتل الرحيم للمستفيدين من العوائد". في عالم من المدخرات الوافرة، ينبغي أن تكون العوائد منخفضة؛ وهذا نتيجة لقوى السوق التي تستجيب لها البنوك المركزية.
في الوقت الحاضر، فإن ميل العالم الكبير للادخار لا تصاحبه رغبة في الاستثمار. وهذا هو السبب في بقاء العجز في المالية العامة كبيراً، وأسعار الفائدة منخفضة بصورة قصوى. على الهامش، المدخرات الإضافية هي بلا جدوى الآن. تُدفع العوائد إلى الأدنى حتى أكثر من قبل، بسبب حقيقة أن البنوك المركزية تسعى للحؤول دون انهيار الميزانيات العمومية المنتفخة، التي نشأت قبل الأزمة في فصل من حالات الإعسار الجماعي.
هناك لغز. لم يستمر الاستثمار الخاص على وضع الضعف، بالنظر إلى أن القطاع غير المالي على ما يبدو مربح للغاية؟
أحد التفسيرات لذلك هو الحوافز الإدارية المنحرفة. وهناك تفسير آخر، وهو ضعف القطاع. ثم هناك الحلقة المفرغة من الطلب الضعيف إلى الاستثمار الفاتر والعودة إلى الطلب الضعيف. وبالنسبة لكثير من الناس، يبدو من المعقول تأجيل الاستثمار إلى أن يصبح العالم أكثر قابلية للتنبؤ.
من المؤكد أن أسعار الفائدة المتدنية غير مرغوبة، خصوصاً من قبل العائشين على العوائد الحذرين. هؤلاء الحذرون ما عادوا يقدمون خدمة اقتصادية مفيدة. ما نحتاج إليه بدلاً من ذلك هو أن يكون هناك مستثمرون حقيقيون يقدمون على المخاطر. في غياب هؤلاء، تحتاج الحكومات إلى استخدام ميزانياتها العمومية لبناء أصول منتجة. ليست هناك علامة تذكر على أنها ستفعل. في هذه الحالة ستُدفع البنوك المركزية نحو الأموال الرخيصة. وعليكم أن تعتادوا على ذلك، لأن هذا الوضع سيدوم.
( فايننشال تايمز 10/5/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews