رفع إنتاجية الاقتصاد الوطني .. ومن ثم العاملين
حسب ما أوردته صحيفة الاقتصادية 14 نيسان (أبريل 2014 عدد 7490) تشير النتائج الأولية لدراسة تجريها وزارة العمل إلى انخفاض إنتاجية موظفي القطاع الخاص. ويبدو أنه تم التوصل إلى هذه النتيجة بتفسير تدني إنتاجية القطاع الخاص بتدني مستوى العاملين فيه. الإشكالية في هذه النتيجة أنها تغفل عن العوامل الكلية المحفزة والموجه للإنتاجية في الاقتصاد الوطني وتركز على التحليل الجزئي. هذا ليس فيه فقط تجنٍّ على العاملين ووصف إنتاجيتهم بالمنخفضة وتعزيز لنظرة مجتمعية خاطئة في أنهم لا يحبذون العمل ولا يندفعون إليه، ولكن تصرف الانتباه عن العوامل الحقيقية والجوهرية لمشكلة انخفاض الإنتاجية. وعندما يتم تشخيص خاطئ أو قاصر للمشكلة فإن الحلول تكون غير مناسبة، والأدهى والأمر أنها تكون مضللة للرأي العام ولصاحب القرار. ولا يعني القيام بدراسة ميدانية علمية أخذ نتائجها كمسلمات، فنتائج الدراسات مرتبطة بتعريف المشكلة وتحديدها والفرضيات وطريقة البحث وأدوات جمع المعلومات وما إلى ذلك، ولربما تناولت دراستان المشكلة نفسها وخرجت بنتائج متضادة. والعبرة هنا في قوة المبررات وشمولية الطرح وترابط التحليل وتناول جذور المشكلة وليس ظواهرها. كثير من الدراسات للقضايا والمشاريع الوطنية يتم إجراؤها من قبل فريق استشاري أجنبي فيكون لديه انحيازية ثقافية تؤثر في فهمه للثقافة والمعطيات والظروف المحلية ويغيب عنه مستوى النضج الاقتصادي والصناعي فيجنح نحو ربط إنتاجية الاقتصاد بإنتاجية العامل وحسب. والحقيقة أن القطاع الخاص السعودي أصلاً ضعيف البنية، قليل الإبداع والابتكار، يرتكز على الصناعات التجميعية الاستهلاكية وعلى العمالة الأجنبية غير الماهرة. وهذا أصل مشكلة تدني مستوى الإنتاجية. والدليل على ضعف القطاع الخاص أنه ما زال يقتات على الإنفاق الحكومي في مرحلة الإنشاء عبر قروض ميسرة ودون فوائد تصل لملايين الريالات، وكذلك ضمان شراء المنتج من خلال نظام المشتريات الحكومية التي تفرض استخدام المنتج الوطني الذي صنع بآلات ومواد وأيدٍ أجنبية! ولذا فالقطاع الخاص يعتبر موظفاً لدى القطاع العام في هذه الحالة، وبدلا من أن يكون مساهماً في الاقتصاد الوطني معيناً للدولة في جلب دخل إضافي عبر إنتاج سلع مبتكرة كقيمة مضافة، نجده على العكس تماماً يمثل قناة لتسرب الأموال خارج الاقتصاد الوطني عبر حوالات العمالة الأجنبية غير الماهرة. العجيب أن القطاع الخاص يؤكد هذه الاعتمادية على الإنفاق الحكومي فلا يعقد مؤتمر ولا ندوة ولا دراسة ولا حتى تصريح صحافي إلا حملوا الدولة عبء النهوض بالقطاع الخاص واشترطوا الدعم الحكومي للقيام بأدوارهم الاقتصادية ومسؤولياتهم الوطنية. إنه حقاً أمر يدعو للغرابة أن يتم احتضان القطاع الخاص طوال الأربعة العقود الماضية وهو ما زال يحبو حتى اليوم، ولا يكاد ينمو، فهذه معدلات البطالة المتزايدة أكبر دليل وأوضح شاهد على ضعف دور القطاع الخاص في الإنتاج الوطني على الرغم من كل التسهيلات والدعم المالي والتنظيمي والفني والبشري الذي تقدمه الحكومة. والتساؤل المطروح ماذا جنى المجتمع من دعم القطاع الخاص؟ وهو تساؤل مهم في إطار أن الإنفاق الحكومي يستوجب أن يحقق المصلحة العامة. بمعنى أن الريالات التي تنفق على القطاع الخاص يجب أن توظف في صنع منتجات أكثر جودة وأقل سعراً تضعنا كدولة في مرتبة متميزة في قائمة المنافسة العالمية، والأهم أن يسهم القطاع الخاص في توظيف الموارد المالية البشرية بكفاءة وفاعلية تحقق الإنتاجية العالية والعدالة في التوزيع. لكن هذا لم يحدث ولن يحدث طالما أن دعم القطاع الخاص منفلت لا يخضع لشروط ولا يرتبط بإستراتجية اقتصادية وصناعية وطنية لـ 30 عاما مقبلة. وهكذا يكون هناك نشاط وربما حتى كفاءة في العمل، ولكن دون تنسيق وتوجيه نحو هدف إستراتيجي يراد تحقيقه ينقل السعودية إلى مصاف الدول المتقدمة صناعياً.
هذه الفوضى الإنتاجية أفرزت مصانع استهلاكية ضعيفة متناثرة هنا وهناك، ولم تخلق صناعات تحويلية أصيلة مترابطة. إن عدم وجود منظومة صناعية تكون بمثابة خريطة طريق أدى إلى ضعف إنتاجية الاقتصاد الوطني. إذ لا يكفي تحقيق الكفاءة لتحقيق الإنتاجية فهي تتطلب - أي الإنتاجية - تنسيق الجهود والتكامل في العمل، حيث تكون مخرجات إحدى الصناعات مدخلات لأخرى، وهكذا يكون لدينا نسيج للصناعات الوطنية متماسك يقوى على الابتكار والإبداع والإنتاج. لقد غابت الرؤية المشتركة فتناثر عقد الصناعة وأصبحت حباته الغالية غالية لذاتها وحسب، ولكن دون قيمة جماعية منتظمة. ما نفتقده هو هيكل للصناعة يحدد أولويات الصناعات التحويلية الإستراتيجية الضخمة التي نسعى لبنائها خلال الـ 30 عاما المقبلة بتميز، حيث تحتوي كل صناعة على مجموعة من المصانع في هيئة تسلسل هرمي، حيث تكون المصانع الصغيرة روافد للمصانع المتوسطة، والمتوسطة روافد للمصانع الكبيرة. وعندما تكتمل الخطة الصناعية ويتفق عليها يجب تنفيذها بالتزام تام دون استثناءات ومحاباة أو تعطيل أو تأجيل ويمكن تسميتها "السعودية 2030". بعد ذلك تكون الخطة موجهة للإنفاق والدعم الحكومي لمشاريع القطاع الخاص لضمان أن تصب في اتجاه تحقيق الخطة الصناعية الإستراتيجية. هذا ما فعلته دول كثيرة فتحولت من خلال خطة وطنية واضحة وعزيمة صادقة من دول نامية إلى دول متقدمة صناعيا. لكن ثمة مشكلة يعانيها الاقتصاد السعودي تقف حجر عثرة في تطبيق مثل هذه الخطة الإستراتيجية طويلة المدى، وهو الفجوة بين تحقيق المصالح الخاصة والمصالح العامة، وفي بعض الأحيان تطويع المصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة. فهناك من المستثمرين من يرى الإنفاق الحكومي غنيمة ويكون همه كيف يقتطع الجزء الأكبر دون الأخذ في عين الاعتبار المنافع العامة المتحققة. فلا يبالي لو اقترض من الحكومة وأنشأ مصنعاً استهلاكياً وجلب المواد والعمالة من الخارج، المهم.. أن يزيد من غلته. وقد لا يلام في ظل الانفلات الصناعي والفوضى العارمة التي تجتاح الاقتصاد الوطني، ولكن النتيجة النهائية هي إصابة الإنتاجية بالضعف الشديد. هذا الضعف في البنية الاقتصادية والهيكل الصناعي يلقي بظلاله على إنتاجية العاملين في القطاع الخاص فإذا كانت دائرة الإنتاجية ضيقة بنوعية المصانع الصغيرة الاستهلاكية التجميعية فإن ذلك يحد من إمكانات تعظيم الإنتاجية لدى العامل مهما بلغ من القدرة والرغبة في زيادة الإنتاج. ولذا أتمنى على وزارة العمل إعادة النظر في الدراسة وتعميق البحث والتحليل في كيفية رفع إنتاجية الاقتصاد الوطني أولاً، ومن ثم البحث في رفع إنتاجية العاملين.
( المصدر الاقتصادية 2014-04-20 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews