أحداث القرم تضرب أسواق المال الروسية
على الرغم من تعوّد القطاع المالي في روسيا على موجات الارتفاع والانخفاض المفاجئة. من الحقبة المباشرة لما بعد الشيوعية إلى الانهيار العالمي عام 2008، عبر أزمة عام 1998 المحلية، فقد كانت تقلبات القطاع المصرفي الروسي لا مثيل لها تقريباً.
حتى الآن لم تؤد التوترات الحالية حول شبه جزيرة القرم إلى ما يشبه توجيه ضربة مباشرة للمصارف. تبدو عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهي تجميد أصول بعض عشرات المسؤولين، في الوقت الحالي وكأنها لا تزيد كثيراً على كونها مجرد لفتة رمزية. مع ذلك فهناك مخاوف تقبض الصدور بين النخبة المالية في موسكو.
العلامات الأكثر وضوحاً للاضطراب - تراجع العملة، وتراجع أسعار الأسهم والسندات – وهي بالكاد مُستغربة. مع ازدياد حالة عدم اليقين السياسية حول مستقبل شبه جزيرة القرم، وهدف روسيا النهائي وشهية الغرب لتصعيد العدائية، ستكون الأسواق دائماً متوترة.
الخوف بين المصرفيين والمستثمرين على حد سواء هو أنه ما لم يهدأ الوضع، فالتأثير العنيف في القطاع المالي - وبالتالي في الشركات الروسية وإمكانيات نمو الاقتصاد الأوسع - يُمكن أن يكون أكثر عُمقاً.
السبب واضح بما فيه الكفاية. إن السوق المصرفية في روسيا مُعرّضة للتضرر أكثر من معظم الأسواق الأخرى، وذلك بفضل مجموعة من الهياكل المالية المتخلّفة نسبياً، والنمو السريع الذي حدث في الفترة الأخيرة، والمستوى العالي من الاعتماد على التمويل الخارجي.
من بعض النواحي، ما تكشّف خلال الأسبوع الماضي أو نحو ذلك، يبدو كأنه إعادة صغيرة للذعر العالمي الذي ساد النظام المصرفي في العالم كله في عامي 2007 و2008.
حتى بدون فرض عقوبات كاملة، كان هناك اندفاع في اتجاهين لإقامة حاجز حول القطاع المالي في روسيا، فقد سحبت الشركات والمصارف الروسية ودائع بمليارات الدولارات من المصارف الأمريكية والأوروبية، خوفاً من أن الأرصدة قد يتم الاستيلاء عليها أو تجميدها في حال تم فرض عقوبات صارمة.
بالمثل، كانت المؤسسات الغربية مشغولة بتقليص تعاملاتها مع المصارف والشركات الصناعية الروسية. ذلك لم يُترجم بعد إلى النبذ الصريح - على سبيل المثال، لا تزال خطوط الائتمان مفتوحة. كانت هناك أمثلة على "التخفيف من المخاطر"، إذا أردنا استخدام كناية مصرفية مفضلة. انسحب باركليز الأسبوع الماضي من مشروع مع ثاني أكبر بنك في روسيا هو في تي بي VTB، لتمويل مشترك لصفقة شركة إيسار للطاقة في الهند.
لن يطول الوقت كثيراً حتى تتفشى مثل هذه المخاوف لتصبح انسحاباً كاملاً للمصارف الغربية من العمل مع الأطراف المقابلة في روسيا.
خلال عامي 2007-2008، كشفت الأزمة العالمية الطريقة المتعجرفة التي تعاملت بها مصارف متعددة - من ليمان براذرز في الولايات المتحدة إلى نورثرن روك في بريطانيا – لتمويل نفسها. على أنه دون الوصول إلى أسواق السندات والتمويل الداخلي بين المصارف، فقد كان مصيرها الغرق.
إن مصرفي في تي بي VTB وسبيربانك، وهو أكبر مصرف في روسيا، ليسا استنساخاً لمصارف مثل ليمان أو نورثرن روك، فهي شركات عالمية متنوعة، مع مزيج من الخدمات المصرفية للتجزئة والاستثمار، وقدر من الإدارة القوية.
في المنطقة الحاسمة لهيكلها الخاص بالتمويل، هناك تشابه مع عديد من المصارف الغربية التي توسعت بقوة في الفترة التي سبقت الأزمة على أساس التمويل الذي تبيّن أنه يتسم بتقلّب فظيع عندما جاء وقت الحسم.
كان كل من "في تي بي" VTB و"سبيربانك" في الأصل من المصارف الضخمة في عام 2009. اليوم هما ضعف ذلك الحجم. وفي نفس الوقت الذي خاضت فيه المصارف الغربية عملية مؤلمة لعكس توسّعها الائتماني في وقت الطفرة، شهد العملاقان المصرفيان التوأم في روسيا تضخُم ميزانيتهما العمومية في الوطن والخارج على حد سواء.
في آخر إحصاء، في أيلول (سبتمبر)، كانت أصول مصرف في تي بي VTB نحو 8.5 تريليون روبل (236 مليار دولار)، أي بزيادة 13 في المائة منذ كانون الثاني (يناير) 2013. وعلى الرغم من أن مثل هذا النمو السريع قد تم تمويله إلى حد كبير عن طريق زيادة ودائع الزبائن، إلا أن هذه الأموال لا تزال بالكاد تُغطي نصف تعاملات أصول المصرف - وهي نسبة صغيرة بشكل استثنائي بحسب المعايير العالمية لما بعد الأزمة.
ذلك يعني أن المصرف يعتمد كثيراً على التمويل من أسواق رأس المال - وهي مشكلة في حال تم إغلاق أسواق رأس المال، كما هي حالياً.
هناك هيكلة ميزانية عمومية مماثلة، رغم أنها بشكل أقل تطرفاً، واضحة في مصرف سبيربانك. بل وهناك بعض الفوائد من تداعيات أزمة شبه جزيرة القرم. ولنطلق عليها اسم "التوتر". أو لنقل إنها الوطنية.
في غضون أسبوع أو اثنين فحسب، استرجعت الشركات الروسية أموالاً بما يصل إلى 50 مليار دولار حسب بعض التقديرات. والأموال التي كانت ذات مرة مورد تمويل للمصارف الغربية، هي الآن موارد مالية قيّمة لمصرفي في تي بي VTB وسبيربانك.
في الوقت نفسه، أوضح البنك المركزي الروسي للمختصين الماليين المحليين أنه على استعداد لإعادة تفعيل مجموعة من تسهيلات السيولة المتوقفة، التي كانت متاحة في ذروة أزمة عام 2008.
بالتالي فإن النظام البنكي في روسيا ليس على وشك الانهيار، لكن البنوك والشركات ستعاني دون شك، على الأقل في المستقبل المباشر – وحين يعود التواصل إلى أسواق المال، فإنه سيكون مكلفاً، كما أن الضغوط التضخمية التي يمكن أن تنتج عن تدخل البنك المركزي، ستعقِّد الأمور في هذه الأثناء.
في النهاية، طالما تم احتواء أزمة القرم، فإن عشاق الأموال الروسية ربما لن يرتدعوا، ذلك أن أحدث هبوط في حظوظ القطاع، لا يعدو كونه مجرد جولة شاقة غريبة أخرى.
( فايننشال تايمز 22/3/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews