تجربة الصين في بناء الاقتصاد القوي
قامت جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، متبنية الماركسية اللينينية في بيئة مهيأة لانتشار الفكر الاشتراكي، حيث إن الصين منذ بداية القرن العشرين عانت من تدهور الأوضاع على الصعيد الداخلي، من تدهور مستويات معيشة الفلاحين الصينيين فكان الريف بذلك هو نواة الحركة الاشتراكية والأساس لها، خلافاً لفكر الاتحاد السوفيتي الذي كان يعوّل على البروليتاريا الصناعية وليس الفلاحين مما عُد أحد أسس الخلاف الأيديولوجي الصيني - السوفيتي حول التطبيق الاشتراكي وأسلوب الثورة، ولا سيما بعد هجوم "خروتشوف" على سياسات ستالين (1956). فالصين لم تكن لتوافق على ذلك و"ستالين" هو الداعم الأساسي للحزب الشيوعي الصيني، فرأت الصين أن الاتحاد السوفيتي خرج عن المبادئ اللينينية الماركسية؛ حتى أطلقت عليه: "الدولة التحريفية" إشارة إلى أنه حرّف مبادئ لينين وستالين.
وترى عزة جلال هاشم (السياسة الدولية - ع132- إبريل 1998) أن أهم ملامح الاشتراكية الصينية مبدأ "دكتاتورية الشعب الديمقراطية" الذي عني -كما شرحه ماوتسي تونج- ديموقراطية للشعب بمختلف فئاته، أما الديكتاتورية فهي ليست موجهة للشعب وإنما هي موجهة إلى أعداء الشعب داخل الصين وخارجها، فهي ديمقراطية تخدم مصالح الشعب، وديكتاتورية في مواجهة أعداء الثورة، وكذلك مبدأ "المركزية الديموقراطية"
بالإضافة إلى البراجماتية (الواقعية) وهي صفة قديمة اتصف بها الصينيون وتعني: سرعة تكيفهم مع الأوضاع، ولعل أبرز الأدلة على ذلك أن الصين عندما اعتنقت الفكر الماركسي لم تقبله كما هو، وإنما أدخلت عليه تعديلات لكي يتناسب مع طبيعة مجتمعها، حتى أصبح هناك ما عُرف بالنموذج الاشتراكي الصيني، الذي عملت الصين على نشره في مواجهة النموذج الاشتراكي السوفيتي، وبرغم حدة الصراع الأيديولوجي بين الصين والولايات المتحدة إلا أن المصلحة الصينية دعت إلى تقاربهما في 1971 - 1972 وعُد ذلك ملمحاً لواقعية الصين في التعامل مع الأحداث، وهو ما أسفر عنه احتلال الصين لموقعها في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. وكذلك يعود الفضل للواقعية الصينية في التركيز على الإصلاح الاقتصادي منذ بداية الثمانينيات، فإدخال تعديلات هامة على النظام الاقتصادي القائم وجدها البعض تتعارض مع المبادئ الاشتراكية، فكان رد "دينج شياوبنج" أن الاقتصاد أهم من الأيديولوجيا؛ أي أن مصلحة الصين تأتي أولاً.
ويتساءل "محمد فايز فرحات" (السياسة الدولية -ع132–إبريل 1998) عن كيفية قيام إصلاح اقتصادي في الصين دون حدوث تحولات سياسية موازية، أو انهيار سياسي على نحو ما شهدته دول أوربا الشرقية، ثم يجيب عن هذا التساؤل بقوله: إن الإصلاح الاقتصادي في الصين جاء بمبادرة من الحزب الشيوعي الحاكم نفسه، أي أنها تتم في إطار مظلة الحزب الشيوعي وليس انقلاباً على مبادئ الحزب نفسه، وذلك في ظل إدراك مجموعة من الإصلاحيين داخل الحزب الشيوعي بضرورة إجراء هذا الإصلاح من أجل الحفاظ على معدلات النموّ الاقتصادي، وتعظيم الكفاءة الاقتصادية والمنافسة الاقتصادية الصينية في الأسواق الخارجية
ويرى د. محمد نعمان جلال (السياسة الدولية – ع152- إبريل 2003) أن العقلية السياسية الصينية تمتلك فلسفة فريدة من نوعها، فماوتسي تونج عندما بلغ به الكبر ترك كثيراً من الأمور للقائد الصيني المتواضع والبالغ الكفاءة "شوان لاي" ولم يمانع في إعادة الاعتبار لقائد صيني آخر هو "دنج سياوبنج" وهذا الأخير عندما بلغ به الكبر ترك القيادة لجيانج زيمين، واكتفى بمنصب شرفي هو رئيس اللجنة العليا للرياضة، ولكنه كان بمثابة الأب الروحي للقيادات الجديدة، وجيانج عندما واجه نفس الاختيار اكتفى بالاحتفاظ برئاسة اللجنة العسكرية المركزية، وترك القيادة الجديدة بزعامة "هوجينتاو" تضطلع بدور قيادة الصين وإدارتها في بداية القرن الحادي والعشرين.
ويرأس "هوجينتاو" - 59 عاماً - اللجنة الدائمة وهو القائد الأعلى للصين، وينتمي للجيل الرابع، وقد تم إعداده لخلافة "جيانج" منذ تم اختياره من قبل دينج قبل حوالي عشر سنوات، وينظر إليه بصفة عامة على أنه محافظ وقد انضم للحزب في عام 1964 وترقى ليصبح رئيس رابطة الشباب الشيوعي في عام 1948 وفي العام التالي أصبح أصغر زعيم إقليمي سناً في الصين وهو في الثالثة والأربعين من عمره. ويبدو عليه أنه زعيم بيروقراطي هادئ، ويقول النقاد أنه يفتقر للكاريزما، ويعرفه غالبية الصينيين بصورة أساسية لقيادته حملة الترويج لنظرية "جيانج" المعروفة باسم التمثيل الثلاثي خلال العامين الماضيين.
ويتضح من العرض السابق أن القيادات الصينية المتعاقبة تولي اهتماماً خاصاً بالإصلاح الاقتصادي وذلك في ظل النظام الاشتراكي الذي يحدده الحزب الشيوعي الحاكم، وقد أدى هذا النظام السياسي الفريد في إدارة شئون الدولة إلى تبوؤ الصين مكانة عالمية في السوق الدولية
كانت الصين في عام 1989 تحتل المرتبة الـ 15 في قائمة أكبر القوى التجارية في العالم، لكنها تقدمت العام الماضي لتصبح سادس أكبر مصدر ومستورد على مستوى العالم. فنجد أن التجارة الخارجية في الصين – وهي أكبر دولة من حيث عدد السكان- قد نمت في السنوات الـ 12 الماضية بوتيرة أكبر من متوسط النموّ العالمي.
فالصين حالياً هي المصدر الأول للعديد من السلع مثل: الملابس والأحذية والساعات والدراجات الهوائية. وتشير تقديرات رسمية إلى أن إجمالي حجم التجارة الصينية بلغ العام الحالي 600 مليار دولار مقارنة مع أقل من 510 مليارات العام الماضي، فالصادرات ارتفعت في الشهور التسعة الماضية بنسبة 19.4% وهو ما رفع الفائض التجاري بنسبة 49.4% أي بقيمة 20 مليار دولار.
.
وتشير آخر المعلومات الإحصائية الصادرة عن مصلحة الدولة في الصين إلى أن إجمالي الناتج الوطني ازداد 7.9% في التسعة شهور الأولى من العام 2002 مقارنة بما كان عليه الحال خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وشهد الاقتصاد الصيني ازدياداً سريعاً خلال السنوات الثلاث عشرة، إذ بلغ معدّل الزيادة في إجمالي الناتج الوطني 9.3% سنوياً في حين بلغ المعدل في الاقتصاد العالمي 2.5% فقط في تسعينيات القرن العشرين، وبلغ معدل الزيادة في إجمالي الناتج الوطني وللفترة 1990–1997 يقدر بـ11.2% سنوياً، لقد بلغ النمو الاقتصادي في الصين العام 1997 رقماً قدره 8.8% في حين ارتفعت أسعار المبيعات للسلع بالتجزئة 0.8% فقط عن العام 1996 مقارنة بمطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين. لقد قفزت زيادة حجم إجمالي ذلك الناتج من 100 مليار يوان إلى أكثر من 900 مليار يوان أثر التغيرات التي أصابت بنية الاقتصاد الصيني في عقد التسعينيات.
ولعل الثورة الصناعية التي تشهدها الصين اليوم وارتفاع نسب الصناعات الأولى والثانية والثالثة بأرقام كبرى قد جعل الصين وقد ارتفعت فيها نسبة الواردات والصادرات من إجمالي الناتج القومي 44% في العام 2001 بعد أن كان 24.6% في العام 1989، ولقد أدى ذلك كله إلى زيادة دخل المواطنين في الصين، فضلاً عن الأرباح الخيالية التي حققتها الشركات والمؤسسات الصينية وما حققته الدولة من إيرادات مالية، لقد تكللت الخطة الاقتصادية الخمسية في الصين عن إنجاز انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية رسمياً في 10 نوفمبر 2001.
ونحن العرب نتعاطف مع صمود الصين الواثق والخارق إلى مكانة القوة العظمى في غضون عقد واحد قادم من السنين على الأرجح، ذلك أننا نعرف أن تعدد القطبية في عالمنا الجديد قد يحمي شعوبنا من سطوة الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت عصراً امبريالياً جديداً ولم تعد تكتفي بالهيمنة السياسية والأمنية والعسكرية والثقافية في مناطق المصالح الحيوية الأمريكية، وفي مقدمتها الشرق الأوسط بوجه عام، والمنطقة العربية بصفة خاصة. بل تركز حالياً على التغلغل الاقتصادي وتطمع في بترول العرب ودول آسيا الوسطى الإسلامية، وفي أسواقها التجارية، ثم في استثماراتها ومدخراتها، ومواقعها الجيواستراتيجية المتحكمة في التجارة العالمية وفي الاستراتيجية الكوكبية، ويدرك كثير من المثقفين العرب تلك التناقضات الحادة بين الثقافتين الأمريكية والإسلامية التي تغذيها أفكار ورؤى "صموئيل هنتيغتون" عن الصدام القادم بعد نهاية العقد الأول من القرن الحالي بين الحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وتحالف الصين الكونفوشوسية مع بعض الدول الإسلامية.
( الشرق 15/3/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews