نضوب معين الأفكار يفقد البنوك المركزية الكبرى الاتجاه
لقد تم اعتماد أسعار الفائدة ما دون الصفر، التي كانت فيما مضى بمنزلة الموضوع المميز لخبراء الاقتصاد، في البلدان التي تُشكّل نحو ربع الناتج العالمي. يقول النقّاد إنها علامة على أن صنّاع السياسة قد نفدوا من الأفكار.
في الوقت الذي تستعد فيه المطاعم في حي أوكاشيماشي في طوكيو لذروة العشاء المسائية، كانت كاين وأتسوكو تقفان على مفترق طرق للمشاة يُحيط بهما محال المعادن الثمينة، تتساءلان بفارغ الصبر ما الذي يُمكن فعله حيال سعر الذهب.
وصلت الشقيقتان الكبيرتان في السن بالقطار من الضواحي تماما بعد ساعات من دخول سياسة أسعار الفائدة السلبية لبنك اليابان حيز التنفيذ رسميا. ليس لديهما أي فكرة عما يعنيه ذلك بالنسبة لهما، لكن تملكان شعوراً غامضاً أنها ستجعل الأمور أسوأ. لقد جاءتا إلى أوكاشيماشي لشراء الذهب، لكن تراجع السعر بين ليلة وضحاها أفزعهما. تقول كاين "نحن لا نريد المخاطرة، لكنني لا أعتقد أن أي شيء في اليابان سيُحقق المال الآن".
على الإنترنت، تحول المزاج إلى غضب. لقد شهدت المنتديات طوفان من التعليقات من المتقاعدين اليابانيين الذين يشجبون أسعار الفائدة السلبية، و"التعذيب" الذي تُلحقه سياسة بنك اليابان بالفعل. كتب أحدهم "رفع أسعار السلع الأساسية للتغلّب على الانكماش، رفع الضرائب الاستهلاكية، تخفيض أسعار الفائدة.. هذه كلها سياسات تجعلنا نُعاني".
لم يبحث أي أحد حتى الآن عن إشارات الاضطراب. على مدى الأسبوعين الماضيين، الشاشات في واجهات شركات الوساطة المالية اليابانية تنقل حكاية قاتمة لانخفاض الأسهم، وارتفاع الين وتحقيق السندات الحكومية اليابانية القياسية التي مدتها عشرة أعوام لعوائد ذات قيمة سلبية للمرة الأولى.
قد يكون اليابانيون متحفظين في أفضل الأوقات، وهناك عدد قليل ممن يعتقد أن هذه هي أفضل الأوقات.
اليابان ليست البلاد الوحيد المتضررة. مفهوم كان فيما مضى مجرد موضوع يخضع لنقاش صغير بين خبراء الاقتصاد أصبح الآن واقعا غير مريح. مع برامج التسهيل الكمي التي يبدو أنها تفقد قوتها لإبهار الأسواق، والعديد من الحكومات إما غير قادرة أو غير راغبة بتأييد رفع الإنفاق، فقد شعرت البنوك المركزية بأنها مضطرة لتجربة أدوات جديدة.
السويد وسويسرا والدنمارك ومنطقة اليورو وأخيرا اليابان - التي تُشكّل ما يصل إلى نحو ربع الاقتصاد العالمي - جميعها أدخلت شكلا من أشكال سياسة أسعار الفائدة السلبية في محاولة لمكافحة قوى الانكماش، وإضعاف عملاتها وتحفيز النمو. يعتقد بعض المحللين أنه سيكون على مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن يحذو حذوها على الرغم من انتقاله إلى رفع أسعار الفائدة في كانون الأول (ديسمبر) للمرة الأولى منذ عام 2006. حيث اعترفت جانيت يلين، رئيسة البنك المركزي الأمريكي، أن صنّاع السياسة قد أخذوا على الأقل هذا الاحتمال في الاعتبار.
الأسواق عموماً رحّبت بكل خطوة أجراها البنك المركزي لتخفيف السياسة النقدية منذ الأزمة المالية، لكنها أصبحت أكثر قلقاً بشأن تجربة أسعار الفائدة السلبية. حيث يخشى بعض المستثمرين والمحللين أن هذه الخطوات هي انعكاس هائل لتلاشي قوة البنوك المركزية، وأن السلاح الجديد يُمكن حتى أن يكون خطيراً.
سكوت ماثر، أحد كبار الإداريين للاستثمار في بيمكو، قال الأسبوع الماضي، "إن صنّاع السياسة ربما قللوا بشكل كبير من أهمية المخاطر الاقتصادية. يبدو أن الأسواق المالية ترى على نحو متزايد هذه الخطوات التجريبية، بأنها يائسة وبالتالي تُلحق الضرر بالاستقرار المالي والاقتصادي".
أهو تدبير مؤقت؟
البنك المركزي السويدي كان أول بنك مركزي يختبر سياسية أسعار الفائدة السلبية، أو NIRP كما تم وصفها، من خلال تغيير سعر الفائدة الذي تدفعه على ودائع البنوك التجارية لفترة وجيزة إلى ناقص 0.25 في المائة في عام 2009. هذه التجربة أثارت الدهشة، لكن الاقتصاد انتعش وبدأ البنك المركزي السويدي بسرعة برفع أسعار الفائدة.
في حزيران (يونيو) من عام 2014 حصل البنك المركزي الأوروبي على الإلهام من جاره في الشمال وأعاد إدخال أسعار الفائدة السلبية إلى العالم، من خلال فرض رسوم على الودائع التي تحتفظ بها البنوك في الحارس النقدي في منطقة اليورو. لقد كان ذلك يُعتبر بمنزلة تدبير مؤقت لكسب الوقت والمساعدة في مكافحة الانكماش، وفي نفس الوقت حصول ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، على الدعم لتنفيذ برنامج التسهيل الكمي.
البنك الوطني السويسري حذا حذوه في وقت لاحق من ذلك العام في محاولة كان مصيرها الفشل للدفاع عن سقف عملته مقابل اليورو. البنك المركزي الدنماركي، الذي كان يملك بالفعل أسعار فائدة سلبية على الودائع بشكل ضيق للحفاظ على ربط عملته باليورو، واضطر بحلول أوائل عام 2015 إلى تخفيض أسعار الفائدة إلى أدنى مستوى وصل إلى 0.75 في المائة. كما اضطر البنك المركزي السويدي لإعادة إدخال السياسة في شباط (فبراير) الماضي، بعد أن بقي التضخم بعناد دون الصفر.
في كانون الثاني، بنك اليابان، بعد رؤية برنامج التسهيل الكمي الكبير الخاص به - حجر الزاوية لبرنامج آبي الاقتصادي - يفشل في إخراج الاقتصاد من سباته، اعتمد نفس التدابير.
بشكل عام، النظرية الاقتصادية هي أن أسعار الفائدة السلبية تُشجّع البنوك على إقراض المال بثمن بخس أكثر وإنفاق المُدّخرين بحرية أكبر، وفي نفس الوقت إحباط الأموال في الخارج من التدفق إلى الداخل وتخفيض العملات إلى مستويات أقل.
وكان خبراء الاقتصاد قد افترضوا أن الناس بالأحرى سيحتفظون بالنقود الفعلية بدلاً من رؤيتها تتلاشى ببطء بسبب الرسوم. التجارب الأولية أظهرت أن البنوك تحجم في الواقع عن فرض أسعار فائدة سلبية على ودائعها. نتيجة لذلك، يبدو أن صنّاع السياسة قد انجذبوا على نحو متزايد إلى هذا الرفع المالي الجديد لتخفيض تكاليف الاقتراض، على الرغم من المخاوف بشأن التأثير على القطاع المصرفي.
نارانيا كوشيرلاكوتا، الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي في مينيسوتا، قال هذا الشهر، "أنا أرى أن أسعار الفائدة الاسمية قد تكون بمنزلة أداة قوية بالنسبة للبنوك المركزية".
الضغط على النظام
السياسة قد تؤدي إلى بعض الظواهر الغريبة. إيفا كريستيانسن، المُختصّة بمعالجة الأمور الجنسية في الدنمارك، وقّعت على قرض عمل لمدة ثلاثة أعوام مع سعر فائدة سلبية، الأمر الذي يعني من الناحية العملية أن البنك كان عليه أن يدفع لها نحو 7 كرونات دنماركية (دولار واحد) شهرياً - ما يؤكد بوضوح كيف أن التجربة يُمكن أن تُلحق الضرر بالبنوك التجارية. ما يُثير القلق هو أن نموذج الأعمال للصناعة المصرفية ذات رأس المال الأفضل، لكنها لا تزال هشة سيُصبح أكثر صعوبة بكثير مع أسعار الفائدة دون الصفر.
إلى أي مدى يُمكن أن تُصبح سلبية؟ يقترح بنك جيه بي مورجان أن البنوك المركزية الآن تملك القدرة النظرية لتخفيض أسعار الفائدة إلى ناقص 1.3 في المائة في الولايات المتحدة، وناقص 2.7 في المائة في المملكة المتحدة، وناقص 3.45 في المائة في اليابان وإلى أدنى مستوى قد يصل إلى 4.5 في المائة في منطقة اليورو، الأمر الذي يؤكد أنه لم يكُن هناك أي دليل أن التجارب الأولية قد أثارت اندفاع نحو النقود الفعلية.
كتب مالكوم بار وديفيد ماكي وبروس كاسمان، خبراء الاقتصاد في بنك جيه بي مورجان، في تقرير هذا الشهر، "تُشير هذه التجربة إلى أن سياسة أسعار الفائدة السلبية يُمكن أن تفتح المجال أمام أداة جديدة قوية للسياسة النقدية. إشارة قوية من صنّاع السياسة أنهم على استعداد لاستخدام سياسة أسعار الفائدة السلبية، بفعالية يُمكن أن تُنتج تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة في السوق".
هذا قد يكون صحيحاً، مع تراجع عوائد السندات الحكومية الأكثر أماناً إلى مستويات منخفضة جديدة في أعقاب خطوة بنك اليابان، حيث انخفضت العوائد على السندات الحكومية اليابانية التي مدتها عشرة أعوام إلى أقل من صفر الأسبوع الماضي، للمرة الأولى على الإطلاق بالنسبة لبلد من مجموعة السبعة، بينما تراجعت العوائد على سندات الخزانة الألمانية وسندات الخزانة الأمريكية، لتُصبح قريبة من مستويات قياسية منخفضة.
الأسواق الأخرى كان أداؤها ضعيفاً، مع وطأة عمليات البيع المكثفة التي ألحقت الضرر بالأسهم المالية، حيث انخفضت أسهم البنوك اليابانية بنسبة تزيد على 20 في المائة منذ إدخال بنك اليابان لسياسات أسعار الفائدة السلبية في الـ29 من كانون الثاني (يناير) الماضي. كذلك أسهم البنوك الأوروبية انخفضت بالفعل هذا العام بنسبة تزيد على 20 في المائة، وأسهم البنوك الأمريكية انخفضت بنسبة 15 في المائة.
شركات التأمين ومجموعات المعاشات التقاعدية وصناديق أسواق المال، التي تكافح بالفعل مع ندرة في أصول الدخل الثابت الآمنة التي تقدّم عوائد لائقة، قد تضرّرت أيضاً، لأن أسعار الفائدة السلبية قد دمّرت العوائد على السندات الحكومية. وهناك الآن أكثر من 5.7 تريليون دولار من السندات السيادية مع عوائد دون الصفر، وذلك وفقاً لبنك جيه بي مورجان.
يقول أندرو ميليجان، رئيس الاستراتيجية العالمية في شركة ستاندرد لايف، "إن أسعار الفائدة السلبية قد أصبحت أمراً طبيعياً. هذه التجربة بدأت قبل عدة أشهر والأنظمة المالية لم تنهار، لكن حجم السندات ذات العوائد السلبية في الأسواق يُسبّب صعوبة كبيرة للمستثمرين الذين لا يُمكن أو لن يحتملوا أسعار الفائدة السلبية".
الخوف هو أن الوضع يُمكن أن يزداد سوءاً إذا بدأت الأموال بالتدفق خارج البنوك. الأموال المُخزّنة "تحت السرير" غير مُنتجة. حيث توقِف التداول ولا يُمكن اقتراضها، بالتالي تقويض برامج شراء السندات، الأساسية بالنسبة لسياسة البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان، التي تم تصميمها لتشجيع المستثمرين على إقراض المال إلى الأفراد والشركات.
يُجادل بعض المحللين أن أسعار الفائدة السلبية لا تُحفز الاقتصادات باستثناء تخفيض العملات. قام خبراء الاستراتيجية في بنك دويتشه بمقارنة السياسة بأسلحة الدمار الشامل، وستؤدي إلى تصعيد حرب العملات التي لن تجلب سوى "الدمار المؤكد المتبادل"، وقالوا إن البنوك المركزية بحاجة إلى العثور على "أداة أفضل".
نفاد الأفكار
يقول بعض المستثمرين والمحللين إن الجانب الأكثر ضرراً من أسعار الفائدة السلبية هو ما تدل عليه: البنوك المركزية لم تعُد تعرف ما ستفعله فيما يتعلق بكيفية تنشيط النمو وتبديد شبح الانكماش. ما يُثير القلق هو أن الولايات المتحدة تستعد للانضمام. أحدث سيناريوهات اختبار الجهد الخاصة بها، طلبت من البنوك صياغة تأثير العوائد السلبية على سندات الخزانة الأمريكية على المدى القصير. وتُشير الأسواق إلى أن هناك احتمالا يصل إلى 30 في المائة لتطبيق سياسة أسعار الفائدة السلبية في الولايات المتحدة بحلول نهاية عام 2017، وذلك وفقاً لحسابات بنك أمريكا ميريل لينش.
وقالت يلين في شهادتها للمشرعين في الولايات المتحدة هذا الشهر إنها "ليست على علم بأي شيء قد يمنعنا من فعل ذلك"، لكنها شدّدت أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيظل بحاجة إلى التعامل مع العقبات القانونية وتقييم الأثر المحتمل على النظام المالي الأمريكي.
مايكل كلوهيرتي، خبير الاستراتيجية في بنك آر بي سي الكندي، يقول إن التكهّنات بشأن أسعار الفائدة السلبية "مبالغ فيها بصورة كبيرة"، التي أثارتها اختبارات الجهد وتفاقمت بسبب "غرفة الصدى" في ووال ستريت.
لذلك من المرجح أن يبقى التركيز على أوروبا، حيث البنك المركزي الأوروبي من المتوقع أن يكشف عن مجموعة جديدة من تدابير التسهيل الكمي في العاشر من آذار (مارس) المقبل - بما في ذلك تخفيض سعر الفائدة على ودائعه بشكل أعمق إلى مستوى سلبي.
أي قرار سيسلط الضوء على المأزق الذي يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه فيه ليس فقط باعتباره صانع السياسة النقدية في منطقة اليورو، لكن لكونه أيضاً المُشرف على قطاعها المصرفي.
بعض المسؤولين يرون أسعار الفائدة السلبية كأداة ناجحة لإضعاف اليورو، لكن مُشرف القطاع المصرفي للبنك المركزي الأوروبي حذّر من التأثير المحتمل على ربحية البنوك. الانخفاض الأخير لأسهم البنوك قد أثار الاحتمال بأن يحذو البنك المركزي الأوروبي حذو بنك اليابان، ولا يُطبّق أسعار الفائدة السلبية إلا على جزء مُختار من احتياطات البنوك.
ما يؤكد نوبة التوتر حول أسعار الفائدة السلبية، الحقيقة أن منطقة اليورو تدرس سحب الأوراق المالية من فئة 500 يورو، يراها البعض أنها علامة أن صنّاع السياسة يشعرون بالقلق بشأن تخزين النقود، وليس السبب الرسمي أن الأوراق المالية ذات الفئة العالية يستخدمها المجرمون.
يقول تشارلي دايبل، رئيس أسعار الفائدة في شركة أفيفا للمستثمرين، "إذا فُرض عليك رسوم بمقدار 50 نقطة أساس، فلماذا لا نأخذها [على شكل أوراق نقدية] من فئة 500 يورو ونضعها في خزنة؟ تخزين النقود تحت المخدة سيُصبح أمراً قابلاً للتطبيق، إذا جاز التعبير".
عودة إلى المنتديات اليابانية، أحد الرجال في يوكوهاما مع متابعين من المستخدمين الكبار بالسن، يكتب غاضباً: "أنا خائف وأنا اعتقد أن كثيرا من الناس الذين يعيشون على الاستثمارات والمُدّخرات باتوا خائفين. تم تقديم هذه الاستثمارات إلينا في الأوقات العادية، لكن الوقت الذي نعيش فيه ليس عادياً".
(المصدر: فايننشال تايمز 2016-02-19)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews