تحديات تشغيلية وفنية وبيئية وضرائبية تواجه صناعة النقل البحري
تاريخياً؛ عُرفت صِناعة النقل البحري بأنها صِناعة مُجزئة تتسم بمحدودية التمايُز، وسُرعة تأثرها بالدورات الاقتصادية وتقلبات الأسواق، لكن التطور الذي شهدته والتكنولوجيا التي أُدخلت عليها من حيث التصاميم والأنظمة ساهم بتطويرها كثيراً، فنحن اليوم نعيش في اقتصاد عالمي مُتزايد الاتصال والترابط قوامه التجارة العابرة للمحيطات، لذا نجد علاقة مترابطة بين أنشطة النقل البحري والتجارة العالمية خاصةً عندما نتحدث عن النمو والتطور، وهو ما أشارت له الدراسات المختلفة في هذا القطاع والتي أثبتت وجود تأثيرات متبادلة بينها كونها علاقة اعتمادية، وتشير التقارير بهذا الصدد أن أكثر من 80% من حجم التجارة العالمية من حيث القيمة وأكثر من 85% من حيث الوزن يتم تداولها عبر مؤسسات وشركات هذا القطاع.
يواجه قطاع الشحن والنقل البحري العالمي تحديات تشغيلية وفنية عديدة، منها تحديات توافر البنية التحتية بالموانئ لاستقبال السفن والناقلات خاصة مع التوجه المستمر من قبل شركات النقل نحو امتلاك السفن الأكبر حجماً لزيادة كفاءتها، وتحديات أخرى منها تحديات بيئية وتكاليف الضرائب وشروط وأحكام التأمين البحري وكذلك تحدي الامتثال للتشريعات والقوانين الملاحية المُختلفة والتي يترقب العاملون بهذا القطاع دخول تحديثاتها حيز التنفيذ ومعرفة تأثيراتها على أنشطة النقل البحري المختلفة.
فمؤخراً ظهرت تحديات جديدة بهذا القطاع والذي أثر بشكل كبير على إيرادات الشحن، منها تقلبات الأسعار فقد تراجعت إيرادات الشحن بنسبة تصل إلى 50% في قطاعات شحن مُعينة عن عامٍ مضى، وكذلك انخفاض حجم الأعمال لأسباب ناتجةً عن الزيادة بحجم الأسطول العالمي من السفن وتبِعات الركود الاقتصادي من تباطؤ تعافي حركة التجارة العالمية والتي زادت حدتها مع تراجع مستوى الإنفاق على مشاريع التنمية وارتفاع حِدة المنافسة في الأسواق العالمية، والتي كانت تُواجه بالماضي من خلال خفض حجم الأسطول عن طريق إخراج السفن القديمة من الخدمة وإرجاء طلبات البناء الجديدة، لكن أسطول السفن الحالي يُعد الأصغر سناً، حيث يبلغ متوسط عمر السفنية ما بين (12 إلى 18 سنة – تبعاً لنوع السفينة) ويصل مُتوسط العمر الافتراضي للسفينة ما بين 20 إلى 40 سنة والتي يحددها مجال عملها. مما يجعل من هذه الآلية المُعتادة صَعبة التطبيق دُون تحمل شركات النقل ومُلاك السفن لخسائر مادية من استثماراتهم السابقة..
ومن جهة أخرى، فإن هذه المرحلة بما تحتويه من تحديات خلقت العديد من الفرص أمام مُلاك السفن والمستثمرين بهذا القطاع للاستحواذ على أصول جديدة من سفن وحاويات وناقلات نفط مُستفيدة من تراجع قيم تلك الأصول السوقية وذلك لمعاودة بيع هذه الأصول عند تحسن أسعار الشحن والاستفادة من فروقات أسعار تقييم تلك الأصول، وهو ما يعرف بــ "لعبة الأصول" وهي إستراتيجية اشتَهر بها أصحاب السفن اليونانية الذين تمكنوا من السيطرة على هذه الصناعة منذ قرون، فبغض النظر عن المحنة التي تواجها اليونان حالياً، فهم لايزالون يُسيطرون على صناعة النقل البحري العالمية من خلال استخدام الإستراتيجيات القديمة المعهودة لديهم مثل "الشراء عند الانخفاض والبيع مع الارتفاع" وغيرها.
إن تراجع إيرادات الشحن ومحدودية فرص النمو والتوسع بالأعمال أوجد تحدياً كبيراً أمام إستمرارية نمو شركات النقل البحري، وهو ما دفع حكومات دول ومجالس إدارات شركات مختلفة حول العالم إلى تَوجيه شركاتها العاملة في هذا المجال نحو دراسة جَدوى الاندماج أو رفع نسب تملكها بالأصول والمشاريع المشتركة وخلق تَكامل تَشغيلي مع شركات قائمة من خلال إعادة النظر في هَيكلية كياناتها وذلك إما رغبةً منها في خَلق كَيانات عِملاقة ذات مَلاءة مَالية قوية تُمكِنها من مُواجهة تقلبات الأسعار والدورات الاقتصادية والتصدي لتداعيات عاصفة الركود الاقتصادي، أو لمساندة أعمال شركاتها ودعم وضعها المالي لضمان استمرارية أعمالها ونمو أنشطتها وتوسعها بالأسواق وتحقيقها لعوائد مجزية لمساهميها.
فبالفترة الماضية شهد القطاع موجَة توجه نحو الاندماج والتضامن، وأحدثها تحالف شركات رائدة في مجال نقل الغاز الطبيعي المسال وهم شركة "Dynagas" و"GasLog" و"Golar" الذي أطلق عليه إسم (The cool pool) دَخلت تلك الشركات من خلاله في تحالف مُشترك يهدف إلى تحسين عملياتها وترشيد الإنفاق والاستفادة من سلسلة التسويق الموجودة بالشركات الثلاث والتي تمكنها من خلق قيمة مضافة لعملياتها، خاصةً بعد تراجع عائدات الشحن لمستوى 30 ألف دولار (spot market rate) في اليوم وهو نصف ما شهده القطاع بالعام الماضي، وكذلك انخفاض مستوى إشغال سُفنها بنسب تتراوح من 40% إلى 50%، كما تم الإعلان مؤخراً عن تضامن طويل الأمد بين مجموعة من شركات الشحن البحري العالمية وشركات إدارة سفن لخدمة الخطوط الملاحية المُختلفة، منها على سبيل المثال التضامن بين شركة "Maersk Line" و "MSC" لمدة عشر سنوات، الهادفة إلى تعظيم استخدام أصولها وتحسين مستوى خدماتها المقدمة وخفض تكاليفها التشغيلية السنوية.
هذا، بالإضافة إلى توجيه الحكومة الصينية اثنتين من أكبر شركاتها العاملة في مجال الشحن البحري وهما شركتا"China Shipping Group" و "China Ocean Shipping Group" - واللتان تتحكمان معا ً في ما يقارب من 80 بالمئة من أسطول السفن بجمهورية الصين - نحو عمل دراسة لدمج أنشطتهما، ومن أوروبا وآسيا إلى الخليج العربي وبالتحديد إلى السوق السعودي فقد شهد العام الماضي دمج أصول وعمليات شركة "فيلا" المملوكة من قبل (أرامكو) وشركة النقل البحري السعودي (بحري) والتي نتج عنها إنشاء واحدة من أكبر شركات النقل البحري على مستوى العالم، المالكة والمشغلة اليوم لأسطول قوامه 72 سفينة وناقلة عملاقة تعمل في مجالات متعددة، إضافةً إلى المفاوضات الجارية بين كل من شركة "ملاحة" القطرية والشركة العربية المتحدة لنقل الكيماويات (UACC) بشأن جدوى تضامن خدماتها في مجال نقل منتجات المشتقات البترولية والمواد الكيماوية والذي تنظر "ملاحه" إلى تعزيز مكانتها بهذا النشاط في حال تم التوصل إلى إتفاق نهائي بهذا الشأن.
إن التراجع الحاد في أسعار خدمات الشحن وإيرادات النقل البحري وقلة فرص النمو بالأسواق العالمية أدخل القطاع في مرحلة جديدة تتميز بالبحث الدائم في السبل المتاحة لتوطيد أعمال الشركات والمؤسسات العاملة في هذه الأنشطة وخلق التحالفات فيما بينها، وذلك للوصول لمستوى الملاءة المالية التي يُمكنها من تحقيق مستوى مستقر من الإيرادات والتدفقات النقدية خاصة خلال فترات تقلبات السوق والمحافظة على مستوى الخدمات المقدمة للعملاء حول العالم وجودتها، وهو ما يستدعي السعي الدائم نحو تحسين الأداء والارتقاء بمستوى التنافسيه بالأسواق.
تُعرف عملية الاندماج بأنها توجه شركتين أو أكثر نحو الانخراط لتوحيد عملياتها وخلق التكتل أو التحالف أو التكامل لخلق كيان جديد يكون قادراً على تحقيق الأهداف التي لا تستطيع تحقيقها بوضعها قبل الاندماج، وتعد أيضاً آلية للتغلب على مشاكل قائِمة أو مُتوقعة في المستقبل، ويمكنها من المحافظة على وضعها التنافسي وإستمرارية النمو والتوسع بأعمالها وأنشطتها، فبالنظر إلى اندماج أسطول وعمليات شركتي "بحري" و "فيلا"، والذي وُصِف من قبل مسؤولي الشركة ومصرفيين بأنه الاندماج الأكبر في تاريخ السوق السعودي حيث بلغت قيمته مليارا وثلاثمائة مليون دولار أمريكي، فالهدف من الاندماج هو ضمان المردود المجزي للمستثمرين بالشركة وخلق قيمة مضافة للاقتصاد السعودي، بالإضافة إلى دعم أعمال الشركة والتي احتلت المركز الرابع عالمياً بعد إتمام عملية الدمج كأكبر مالك لناقلات النفط العملاقة في العالم، مما يمنح الدولة الخليجية المنتجة والمصدرة للنفط مكانة مرموقة عالمياً، ورافد قوي للاقتصاد السعودي من خلال تأمين وسائل نقل بحري متطور جاهز لخدمة المملكة ومنتجاتها من النفط.
إن من فوائد الدمج بين الشركات المماثلة في ذات القطاع، أنها تعزز من تواجدها بالأسواق وتُمكِنها من التوسع في نطاق خَدماتِها، وتَحسين مستوى وجودة الخدمات التي تُقدمها وذلك من خلال الاستغلال الأمثل لهَيكَلِية أفضل للتكاليف عبر الاستفادة القُصوى من الاقتصاد الكلي، ويمكنها من النمو بوتيرة أسرع خاصةً في مجال اختصاصها والمجالات المُكملة لأنشطتها الرئيسية، مُستفيدة من توحيد السياسات والإستراتيجيات المُتبعة خاصة المتعلقة في التسويق والتكنولوجيا وكذلك تأمين المهارات والأيدي العاملة الماهرة.
آخذين في الاعتبار أن نجاح أي عملية اندماج يعتمد على ثلاثة عوامل رئيسية هي: سعر الصفقة أو قيمة الاستثمار بها، والهدف الإستراتيجي منها، والذي يكون الدافع لإبرامها، و"القيمة المضافة" من الدخول بها، سواءً على مستوى الشركات أو اقتصاديات الدول، ومن أبرز أسباب فشل عمليات الدمج بين الشركات هو الوقت والجهد الذي تستغرقه الإدارة في الشركة المستحوذة والتكلفة، والتي تكون ناتجة عن عدم جاهزية هَيكلية الشركة لمثل هذه العمليات، والمبالغة في تقييم الأصول، وكذلك توجه بعض الشركات نحو التوسع في أعمالها من خلال الدخول في أنشطة خارج نطاق أعمالها الأساسية والتي لا تُعطي قيمة مُضافة لأنشطتها، وخير مثال يذكر بهذا الموضوع الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها (Mobil Oil Corp) من الاستحواذ على شركة (Montgomery ward) العاملة في مجال تجارة التجزئة في العام 1976، والتي كانت تهدف منها إلى تنويع أنشطتها، لكنها تكبدت خسائر كبيرة من هذا الاستثمار نتيجة فشل خُبراء مؤسسة البترول في إدارة واحدة من أكبر محال التجزئة الأمريكية، والتي شَهِدت خَسائِر مُتواصِلة أو عَوائد ضَئيلة على رأس المال المُستثمر منذ دخول (Mobil Oil Corp) بها.
يتردد حالياً بأوساط العاملين والمُهتمين بهذه الصِناعة أن التوجه العام القادم لمؤسسات وشركات القطاع البحري وقطاعات حيوية أخرى هو المُضي نحو الاندماج واستحواذات جديدة أو التضامن فيما بينها وإعادة النظر في هَياكلها التنظِيمية بهدف خلق تكامل تشغيلي في العَمليات والقُدرات التشغيلية وخفض التكاليف المرتفعة والتخارج من الأنشطة التي لاتدر عوائد مُجزية، والتي قد تُمثل إحدى الآليات المتاحة لمواجهة التحديات الحالية خاصةً على المنظور القريب.. ومن ناحية أخرى إن النظر في إمكانية إجراء عمليات تضامن أو خلق كيانات بحرية كبيرة من حيث الحجم تملك القوة والقدرة على المنافسة عالمياً ستتطلب تقييّم الشركات لأوضاعها المالية ومراجعة إستراتيجياتها الحالية لمعرفة مدى جاهزيتها من الناحية التنظيمية والهَيكلية للدخول في مثل هذه العمليات ومستوى نُضج ثقافة الشركة لإنجاحها، ذلك يستدعي إجراء دراسات مُفصلة عن المكاسب المُتوقعة من الدخول في مثل هذه العمليات، وتحديد السلبيات والتحديات التي ستواجها خلال وبعد الدمج لتقييمها، خاصةً على المدى الطويل، وذلك لتقدير مستوى المكاسب المتوقعة والقيمة المضافة التي من الممكن تحقيقها من خلال تنفيذ هذه العمليات سواءً لمساهميها أو اقتصادات الدول وإجراء التغييرات الهيكلية السليمة والمدروسة، والتي من شأنها إنجاح عمليات الدمج والتضامن بأنشطتها.
(المصدر: الشرق القطرية 2015-10-02)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews