تحديات تواجه الاقتصاد العالمي
وأنا أكتب هذا التقديم عن النمو الاقتصادي العالمي لفت انتباهي أن القوى التي تحدد تطورات الاقتصاد الكلي حول العالم معقدة للغاية، ما يجعل استخلاص نتيجة بسيطة في هذا الخصوص مهمة صعبة. وأود توضيح هذه النقطة وعرضها بالتفصيل. تتشكل هذه التطورات بفعل قوتين عميقتين على المدى المتوسط:
فهناك التركة التي خلفتها الأزمة المالية وأزمة منطقة اليورو التي لا تزال واضحة في كثير من البلدان. وفي هذا السياق، نجد أن المصارف الضعيفة ومستويات الدين المرتفعة ــ في القطاع العام أو قطاع الشركات أو الأسر ــ لا تزال عبئا معوقا للإنفاق والنمو وإن كان بدرجات متباينة، ويعمل النمو المنخفض بدوره على إبطاء عملية تخفيض الرفع المالي.
كذلك حدث انخفاض في معدلات نمو الناتج الممكن. وكان النمو الممكن في الاقتصادات المتقدمة قد بدأ يتراجع قبل بداية الأزمة، حيث كانت شيخوخة السكان قد أصبحت عاملا مؤثرا آنذاك، إلى جانب تباطؤ الإنتاجية الكلية. ثم تفاقمت الأمور بفعل الأزمة، إذ أدى الانخفاض الكبير في الاستثمارات إلى زيادة انخفاض نمو رأس المال. ولأننا بدأنا الخروج من مرحلة الأزمة، فمن المتوقع أن ينتعش نمو رأس المال، ولكن شيخوخة السكان وضعف نمو الإنتاجية سيظلان عبئا على كاهل الاقتصاد. وتبدو الآثار أوضح في الأسواق الصاعدة، حيث تقترن شيخوخة السكان بانخفاض تراكم رأس المال وتراجع نمو الإنتاجية لإحداث تراجع كبير في النمو المستقبلي الممكن. ومع ضعف آفاق المستقبل، يستمر انخفاض الإنفاق وتراجع معدلات النمو.
وإضافة إلى هاتين القوتين الأساسيتين، يهيمن على المشهد الحالي عاملان لهما انعكاسات توزيعية مهمة، وهما انخفاض أسعار النفط والتحركات الكبيرة في أسعار الصرف. وقد كان الانخفاض الحاد في أسعار النفط تطورا مفاجئا. وهناك تفسيرات كثيرة طرحت لاحقا، وكان أكثرها إقناعا يركز على الزيادة المطردة في العرض من مصادر غير تقليدية التي صاحبها تغير في استراتيجية "أوبك" (منظمة البلدان المصدرة للنفط). وترجح معظم هذه التفسيرات استمرار الانخفاض لفترة طويلة قادمة.
وأدى انخفاض الأسعار إلى إعادة توزيع نسبة كبيرة من الدخل الحقيقي لتتحول من البلدان المصدرة للنفط إلى البلدان المستوردة له، وتشير الأدلة المبكرة إلى تزايد الإنفاق مع ارتفاع الدخل الحقيقي في البلدان المستوردة للنفط من الولايات المتحدة إلى منطقة اليورو والصين والهند. أما البلدان المصدرة للنفط فقد خفضت إنفاقها بدرجة أقل، حيث يمتلك كثير منها احتياطيات مالية كبيرة ويستطيع تخفيض الإنفاق ببطء.
وكانت تحركات أسعار الصرف كبيرة على غير المعتاد. فبالنسبة للعملات الرئيسة سجل الدولار ارتفاعا كبيرا، بينما كان الانخفاض كبيرا أيضا في سعر صرف اليورو والين. ومن الواضح أن هذه التحركات تعكس فروقا واسعة في السياسة النقدية، حيث يتوقع أن تتخلى الولايات المتحدة عن النطاق الأدنى الصفري هذا العام، بينما لا تنطبق هذه الاحتمالات على حالة اليورو أو اليابان. ولأن هذه الفروق ظلت واضحة لفترة فإن المفاجأة هنا ربما تتمثل في المدة التي استغرقتها تحركات أسعار الصرف. وسيكون انخفاض سعر اليورو والين عاملا مساعدا لأن منطقة اليورو واليابان كانتا معرضتين لخطر الدخول في انتكاسة جديدة. وتتيح السياسة المطبقة في الولايات المتحدة حيزا ما لموازنة الآثار السلبية لارتفاع سعر الدولار. وعلى ذلك يجب النظر إلى هذا التعديل في أسعار الصرف باعتباره خبرا سارا في محصلته الصافية بالنسبة للاقتصاد العالمي.
ولننظر الآن إلى هذه العوامل جنبا إلى جنب. فبعض البلدان مثقل بتركة الأزمة دون البعض الآخر. وبعض البلدان مثقل بانخفاض النمو الممكن دون البعض الآخر. وبعض البلدان مستفيد من انخفاض أسعار النفط والبعض الآخر خاسر. وبعض البلدان تتحرك عملته مع الدولار والبعض الآخر مع اليورو والين. أضف إلى ذلك بضعة تطورات ينفرد بها البعض، كالمتاعب الاقتصادية في روسيا أو الضعف في البرازيل. وليس من الغريب ـــ والحال هذه ــــ أن يستوجب الأمر تقييما شديد التفصيل. ففي المحصلة الصافية، تشير تنبؤاتنا الأساسية إلى تحسن أداء الاقتصادات المتقدمة هذا العام مقارنة بالعام الماضي، وحدوث تباطؤ في الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل مقارنة بالعام الماضي، وبالتالي بقاء النمو العالمي قريبا من مستواه في العام الماضي. لكن هذه الأرقام الإجمالية لا توضح مقدار التنوع في هذه التطورات.
وننتقل من السيناريو الأساسي إلى الحديث عن المخاطر، ونطرح السؤال: هل زادت المخاطر؟ ما أراه هو تراجع طفيف في المخاطر الاقتصادية الكلية. فقد انخفض أكبر خطر شهده العام الماضي ـــ وهو خطر الركود في منطقة اليورو ـــ كما تراجعت مخاطر الانكماش. لكن المخاطر المالية والجغرافية ـــ السياسية ارتفعت. وتؤدي التحركات الكبيرة في الأسعار النسبية، سواء كانت أسعار الصرف أو سعر النفط، إلى خسارة أطراف وفوز أخرى. وتواجه شركات الطاقة والبلدان المنتجة للنفط ظروفا أصعب ومخاطر أعلى. وينطبق هذا على الشركات غير الأمريكية والحكومات التي اقترضت بالدولار. وإذا استمرت تحركات أسعار الصرف الكبيرة الحالية، يمكن أن تنشئ مزيدا من المخاطر المالية وأن تعيد الحديث عن حروب العملات. ولا يمكن استبعاد حدوث أزمة يونانية، وهي حدث لا شك أنه كفيل بإحداث اضطرابات في الأسواق المالية. ولا تزال الاضطرابات مستمرة في أوكرانيا والشرق الأوسط، وإن لم تكن لها انعكاسات اقتصادية نظامية حتى الآن.
وأخيرا، وبالنظر إلى تنوع الحالات المختلفة، يتضح أن المشورة بشأن السياسات يجب أن تصمم وفق حالة كل بلد على حدة. ومع ذلك تظل بعض المبادئ العامة قائمة. ولا يزال من الضروري اتخاذ تدابير للحفاظ على النمو سواء على المدى القصير أو الطويل. ومع استحداث التيسير الكمي في منطقة اليورو، تكون السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة قد أنجزت نسبة كبيرة مما تستطيع تحقيقه. وهناك حيز مالي يمكن استخدامه في بعض البلدان، لكنه حيز محدود، فقد أتاح انخفاض سعر النفط فرصة لتخفيض دعم الطاقة وإبداله ببرامج أكثر دقة في استهداف المستحقين. ولا تزال مبررات زيادة الاستثمار في البنية التحتية قائمة دون تغيير عما ورد في العدد السابق من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي. ورغم أن الإصلاحات الهيكلية لا تصنع المعجزات، فإن بإمكانها رفع مستوى الناتج وزيادة النمو لبعض الوقت.
وتختلف قائمة الإصلاحات الملائمة باختلاف البلدان. ونظرا للتكاليف السياسية المصاحبة لكثير من هذه الإصلاحات على المدى القصير، فسيكون على البلدان القائمة بها مواجهة التحدي الذي تفرضه أهمية الاختيار الدقيق فيما بينها.
(المصدر: الاقتصادية 2015-04-16)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews