النظام الطائفي في العراق على حافة الهاوية
استمرار تظاهرات العراقيين في محافظات الوسط والجنوب والعاصمة بغداد بزخم أعلى يؤكد حجم وعمق الانفجار الذي حصل في وجه النظام السياسي القائم وسياسات النهب المنظم لأركانه، رغم ابتعاد شعارات الساحات عن استهداف الحكومة لأسباب لوجستية للحفاظ على استمرارها وحمايتها من احتمالات القمع الحكومي والميليشياوي.
ويوما بعد يوم يتكشف جماهيريا مأزق النظام الطائفي وعلاقته العضوية بالفساد. كما تتأكد حقيقة أن القصة لا تحلها إجراءات إدارية ومالية تقشفية لرئيس الوزراء حيدر العبادي تعتبر من أبسط مهامه، وقد تدخل في باب إصلاحات منظومة الهيكل الإداري للحكومة، وهذه لا تحتاج إلى مظاهرات جماهيرية، ولم تعد إعلاناته حول الحُزَم (الإصلاحية) ذات تأثير فاعل عند المتظاهرين، بل إن سنده التشريعي (مجلس النواب) أخذ يتراجع عما أسماه التفويض البرلماني، ولذلك فهو لا يريد التحرش بالنظام القضائي لكي لا ينقلب عليه، ويضعه أمام إشكالات حادة، ولأن مجلس القضاء تحول للأسف إلى محمية لبعض الأحزاب الحاكمة المتورطة في الفساد.
حيدر العبادي يواجه أصعب ظرف وقد يكلفه موقعه، حيث يلاحقه يوميا ضغط الشارع الملتهب المدعوم لحد اللحظة من المرجعية “الشيعية” من جهة، ومن جهة ثانية لا يستطيع مواجهة ضغط الأحزاب الحاكمة ومن بينها حزبه (الدعوة)، إضافة إلى ضغوط المصالح الإقليمية والدولية.
إن النظام السياسي الطائفي ومنظوماته الأمنية والسياسية قد وصل إلى لحظة التفكك وحافة الهاوية لأسباب أيديولوجية وسياسية وتنفيذية. فقد انتهت صلاحيات الإسناد والدعم من المرجعية الشيعية لحساباتها التكتيكية لأنها لا تريد خسارة الجمهور المنتفض، وأطلقت شعار المطالبة بالدولة “المدنية” ونتمنى أن يكون موقفا مبدئيا وليس شعارا عابرا، ومع ذلك فهو رصيد بيد التيار المدني المنتفض.
إن سياسات هذا النظام الطائفية مزقت لحمة المجتمع العراقي المتجانسة عبر التاريخ، وأيقظت الموروث (الصفوي) وإسماعيل الصفوي بالمناسبة ليس (شيعيا) وإنما صاحب مشروع سياسي تدميري جاء لمواجهة “العثمانية” في حلقة من حلقات تاريخ تفكك العراق وخضوعه للأطماع الأجنبية، واعتمد على ذات سلاح التمزيق الطائفي الذي كان وسيلة المحتل الأميركي وينفذه حاليا النظام السياسي القائم، وأوقع أهل العراق باحتراب طائفي نتائجه السريعة بناء مظلومية جديدة من قبل (العرب السنة) على أنقاض مظلومية (الشيعة) مع أنهما اليوم يجتمعان في مظلومية واحدة هي الاستبداد والقهر والتجويع والتشريد.
أليس المشهد العراقي العام كافيا لسحب أرصدة النظام السياسي القائم التي مكنته من الهيمنة والسيطرة خلال الثلاثة عشر عاما الماضية. ثلث أراضيه محتلة من عصابات متطرفة، وأكثر من ثلث سكانه لاجئين ومهجّرين في داخل الوطن وخارجه. وغالبية كفاءاته العلمية والثقافية والفنية خارج العراق. بلد تعرض لأكبر عملية نهب وسرقة في التاريخ عبر تحالف مهين ما بين الأحزاب والميليشيات المسلحة ومافيات الفساد التي لن يتمكن الحاكم القادم من رحم تلك الأحزاب من فسخ ذلك العقد غير الشريف وفضح رؤوسه الكبيرة.
وسط هذا الانهيار الفعلي والفشل السحيق تلاشت جميع الذرائع السياسية والشعارات التي استخدمها النظام لدعمه تعبويا وإعلاميا خلال السنوات السابقة، مثل اتهام المقاومة المسلحة للمحتل الأميركي بالإرهاب وملاحقة أفرادها، وشعار محاربة داعش رغم أن احتلالها للموصل حصل في يونيو من العام الماضي وليس عام 2003. واليوم يتم اتهام كل ناقد مخلص يسعى للإسهام في إنقاذ البلد بأنه “إرهابي داعشي”.
لقد تكسرت جميع مقومات استمرار النظام الطائفي في العراق والمظاهرات تؤكد ذلك. فأي مبررات ومقومات تحميه بعد كل الذي جرى في العراق من كوارث؟
لا شك أن الأحزاب الحاكمة، مهما اشتدت صنوف المواجهة السياسية بينها وبين الجماهير، لا تستسلم للواقع الشعبي الجديد وهو مصدر جميع السلطات، وتسعى للدفاع عن نفسها وهي تمتلك إمكانيات لوجستية من أهمها التمسك بالدستور الذي مزق العراق، وكذلك إلى وسائل الحكم التقليدية “الاستبدادية” وليست الوسائل الديمقراطية المعروفة والتي تمت مخادعة شعب العراق من قبل المحتل الأميركي وفقها. لأن واحدة من بين الارتكابات الخطيرة التي تمارس اليوم بحق المواطن العراقي كافية لإزاحة الحاكم من موقعه. حاولت القيادات الحزبية الحاكمة اتهام شعارات المتظاهرين بأنها “حرب علمانية ضد الحكم الديني”، وقد أطلق هذا الاتهام من قادة “شيعة محليين” ومن مسؤولين في حكومة طهران بذات الوقت. لكن هذه الحرب النفسية لم تحقق هدفها، ويبدو أن تلك الأحزاب مازالت متوهمة بأن جماهير أبناء الوسط والجنوب قد انتخبوا تلك القيادات لإيمانهم بمبادئ الدين والمذهب. وهي تعلم مدى سذاجة تلك اللعبة، وأن من أساء للدين والمذهب هم الفاسدون قبل غيرهم.
إن انهيار أسلحة دفاع الأحزاب الطائفية بهذه السرعة ضمن قياسات العمل السياسي، طوى صفحة مبررات استمرار “الحكم الطائفي”، بل أدى إلى ضياع فرص استمرار تلك الأحزاب في الحياة وسط الجماهير التي كانت تتمتع بها قبل الحكم، مع أن قساوة نظام صدام حسين قبل عام 2003 ضد كوادر حزب الدعوة ومناصريه هي التي أعطته مكانته تلك ما قبل الاحتلال، ولو استمع صدام إلى نصائح بعض الوطنيين العراقيين التي دعته إلى إرساء تعددية سياسية وديمقراطية حقيقية لما وجدنا اليوم مكانة للأحزاب الطائفية في العراق. ولما طبق حزب الدعوة بعد 2003 ذات السلاح الاجتثاثي البغيض ضد البعثيين ووفق منطق ثأري دموي.
بعد انتهاء وسائل المساندة والدعم الداخلي وفق المشروعية الجماهيرية للحكم، مازالت القوتان الخارجيتان (طهران وواشنطن) هما من تدافعان وتساندان استمرار الحكم الطائفي في العراق لمصالحهما الخاصة ضمن سياق بيئة الاضطراب والاحتراب والتمزق التي تعيشها المنطقة، ويبدو أنها ستستمر لسنوات غير قليلة. لكن الوضع السياسي العراقي يحمل المفاجآت ومن بينها احتمال تحرك أدوات طهران الميليشياوية لإزاحة حيدر العبادي واستيلائها على الحكم وفق سياقات يمكن ترتيبها لكي لا تبدو انقلابا قد يستفز الأميركان بما قد يجعلهم يتحركون بشكل مضاد رغم أنهم صنعوا وأقاموا النظام الطائفي، ومن المستبعد مساندتهم لقوى التيار المدني الليبرالي الذي يسعى إلى ملء الفراغ السياسي عبر التظاهرات الحالية، والتي تظل بحاجة إلى مساندة قوى المشروع الوطني العراقي وشخصياته وجميع وسائل الإعلام النزيه والمخلص والأقلام العراقية الشريفة.
(المصدر: العرب 2015-09-15)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews