تفكك الخارطة الطائفية في العراق
من الصعب توصيف الحالة السياسية في العراق وفق ما هو معروف في عالم الأحزاب والحركات الأيديولوجية والمدنية الحديثة، فما حصل في هذا البلد بعد 2003 عبارة عن هبّة امتزجت فيها المذهبية الإسلامية بالعشائرية التقليدية. كرد فعل على سياسة الحزب الواحد التي امتدت لـ35 عاما حاول عقلاء السياسة في العراق بعد عام 1991 العمل على مشاريع لسلطة حكم بديل من أحزاب غير طائفية تستمد شعاراتها من الإرث الوطني العراقي، إلا أن الدخول الأميركي على الملف العراقي حال دون ذلك، وكانت دوائر اللوبي اليميني في واشنطن تعتقد أن أي تطور لتشكيل سياسي ليبرالي في العراق سيقف عقبة أمام المشروع الموضوع منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، وهو استثمار صعود القطبية الأميركية لفرض متطلبات مشروع الشرق الأوسط انطلاقا من العراق إلى عموم المنطقة.
حصل تفكيك الدولة التقليدية في العراق بواسطة الاحتلال العسكري، وأزيحت جميع الأسس الموضوعية لبناء أحزاب سياسية عراقية تنطلق من خلالها العملية الديمقراطية، وحاولت بعض قوى المعارضة العراقية قبل 2003 التعبير عن هذه الرؤى لكن مشكلتها كانت ارتهانها لمخابرات “السي آي إيه” مثل حركة الوفاق (إياد علاوي) إضافة إلى التنظيم الهلامي لأحمد الجلبي الذي كان أقرب إلى وسيط منه إلى العمل السياسي، وقد خدم المخابرات الأميركية لفترة إلى حين اكتشافها ازدواجيته فانقلبوا عليه ولم يوفروا له فرصة رئاسة وزراء العراق ومنحوها لعلاوي إلى حين استكمال الترتيبات الإيرانية الأميركية بتهيئة سياسيي الإسلام الشيعي المرتبطين عقائديا بطهران وسياسيا بواشنطن كحزب الدعوة وكل من الحكيم والصدر باعتبارهما يشكلان رمزية شيعية لها مناصروها.
كان الشغل الأميركي والبريطاني يسعى إلى بناء منظومة شيعية تعطي مشروعية لتولي الحكم بواسطة الانتخابات، وكان الأمر سهلا بعد التأهيل الإيراني، لكن مثل هذه المهمة كانت صعبة بالنسبة إلى العرب السنة لغياب الحركة السياسية بعد سحق حزب البعث واجتثاثه، أما الحزب الإسلامي العراقي الذي لم يكن له تنظيم حقيقي داخليا في عهد صدام فقد منحه المحتل فرصة للعمل لكونه استعد للعبة الحكم الطائفي، إلى جانب تهيئة مجموعة من الشخصيات التي رُتّب لها الظهور السياسي منذ عام 2005 وتمرير وثيقة الدستور، حيث مٌنحت تلك الشخصيات عناوين وأوصاف سريعة لإتمام صفقة الحكم الشيعي في العراق، وهي في حقيقتها لم تخرج عن الولاءيْن (البعثي أو الإسلامي) ولم تكن إيران بعيدة عن هذه اللعبة، فاستثمرتها في بناء مسرح سياسي طائفي ذي لون واحد هيمنت تشكيلاته على الساحة، معتمدة على المرجعية الشيعية في النجف.
كان الأميركان مهتمين بهدف مسح حزب البعث من الخارطة السياسية في العراق والمنطقة، لأنه كان على المستوى الفكري والتاريخي حزب عروبي لديه ثوابت في القضية الفلسطينية، قبل أن يتحول إلى سلطة في كل من دمشق وبغداد لها متطلبات الحفاظ على الحكم.
وجد أصحاب مشروع التدمير فرصتهم في استبداد حكم صدام وقمعه للأحزاب الشيعية التي أعلنت العداء له وعملت بدعم إيران للقضاء عليه، ولم تتمكن إلا عن طريق الاحتلال الأميركي الذي شرع في بناء نظام سياسي طائفي تمثل بهيمنة الأحزاب الطائفية السنية والشيعية، ومنع الخط الليبرالي خصوصا عند عرب العراق من فرصة التنافس الديمقراطي واستثمرت المرجعية الشيعية المال السياسي لتحقيق هذا الهدف، ولهذا حكمت العملية السياسية على نفسها بالفشل منذ البداية، وأصبحت وسيلة لحماية المصالح الخاصة وأحزاب حماية الفساد والنهب المالي العام الذي أوصل العراق إلى الدرك الأسفل، فيما كانت أمامه منذ عام 2003، فرصة بناء قاعدة أضخم عملية تنموية توفرت لها أموال لا تقل عن ستمئة مليار دولار، إضافة إلى ما قدمته مؤسسات الدعم الأميركي وهي مؤسسات زرعت لها كيانات عراقية صرفت عليها الملايين من الدولارات لصالح مشروع تحسين صورة أميركا في المنطقة، إلا أن مؤسسات المجتمع المدني تلك حولت منافعها إلى المشروع الإيراني في العراق.
الجزء المهم من المشكلة السياسية في العراق هو اضمحلال المشروع السياسي المدني الحديث، فالطائفية لا تنتج سياسة حقيقية نافعة للناس والوطن، ولهذا حصلت الكوارث.
الطائفية تبيح كل شيء ما عدا كشف أهدافها، وهي تسمح بالتطرف الديني الشيعي والسني لأنه يشكل سياجا حاميا لها، ولهذا السبب لم نجد علامة جادة من قبل إيران في محاربة تنظيمات القاعدة التي نمت وترعرعت منذ تسعينات القرن الماضي، ولم تحاربها طهران إلا حينما شعرت أنها تنافس مشروعها في المنطقة العربية، لأن البناء الشعاري للقاعدة أقرب إلى المجتمع العربي الإسلامي من ولاية الفقيه الإيراني، ولهذا ذعرت إيران من احتلال داعش للعراق وسوريا ليس ميلا إلى وطنية عراقية أو سورية، بل لأن الاجتياح الداعشي يعرقل مرحليا، مشروع التوسع الإيراني السريع في منطقة “الهلال الشيعي”.
رغم هذه الكوارث السياسية والإنسانية التي حلت بالعراق خلال الثلاث عشرة سنة الماضية، إلا أن خارطة الطائفية السياسية وقعت في مأزق حرج، وهذا مما يتيح الفرصة للمشروع الوطني العراقي ليأخذ فرصته التاريخية، وتعاد بوصلة العمل السياسي إلى موقعها الطبيعي، وهذا ليس خيالا نظريا، بل هو المصير الحتمي للواقع السياسي العراقي.
القائمون على العملية السياسية يحاولون غلق منافذ الحل السياسي في العراق عن طريق تسويق شعارات الحكام المستبدين مثل (ما هو البديل للواقع الحالي غير داعش والبعثيون والفوضى) لكي يقبل الجمهور العراقي بالواقع المر، لكنها لعبة استخدمها صدام وحسني مبارك والقذافي وحاليا بشار الأسد، ورغم هذه العتمة لكن الحل السياسي مقبل في العراق.
(المصدر: العرب 2016-02-02)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews