أزمة الديون والدراما اليونانية
يتردد كثيرًا في غمار أزمة القروض اليونانية أن اليونان كانت مهد الديمقراطية، ولكن تاريخ اليونان ارتبط بالدراما أيضًا. وقد تابع الملايين في العالم تغطية الأزمة التي امتدت عبر أسابيع وكان بها من عناصر الدراما الكثير. وانقسم الجمهور بين مؤيد لليونان في صراعها مع الدائنين ورافض لشروطهم المجحفة وبرنامج التقشف شديد الوطأة من ناحية، ومؤيد للرواية التي يروج لها إعلام اليمين عن اليونان الذي غرق في مستنقع القروض وأنفق ما يفوق حدود إمكاناته ولكنه يرفض شروط الدائنين ويتمرد مهددًا بإلحاق الضرربالاتحاد الأوروبي من ناحية أخري.
وفي الدراما التي تصاعدت أحداثها تدريجيًا منذ 2010 ثم تسارعت وتيرتها بعد إعلان نتائج الانتخابات التي أجريت في يناير هذا العام. صعد البطل المخلص تسيبراس الذي نجح حزبه نجاحًا مدويًا في الانتخابات معبرًا عن رفض اليونانيين لشروط التقشف التي دفع ثمنها المواطن العادي لا رؤساء البنوك التي تسببت في الأزمة في المقام الأول. وهناك الصديق فاروفاكيس وزير المالية، الاقتصادي الذي يعرف اللغة الليبرالية جيدًا كأكاديمي درس الاقتصاد الليبرالي في الجامعات لسنوات عديدة رغم تأثره العميق بالأفكار الماركسية وقد اجتذبته قدرة ماركس علي كتابة نص درامي لتاريخ الإنسانية، محنتها وطرق الخلاص، في سردية امتلأت بالعمال والرأسماليين والعلماء والموظفين كشخصيات درامية.
وعلي الجانب الآخر هناك ثلاثي حزمة الأشرار البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي الذي استدعته المستشارة الألمانية ميركل إلي المفاوضات في وقت لاحق بينما شكل الترويكا أو الثلاثي. وتلعب ميركل دور البطل المضاد ومن ورائها وزير المالية الألماني شلاوبه الذي أشرف علي إعادة هيكلة ألمانيا الشرقية قبيل الوحدة فانتهت إلي الإفلاس وبيعت أصولها بالكامل لألمانيا الغربية مما أدي إلي عواقب اجتماعية وخيمة، وهو مصير يخشي كثيرون أن يكون مصير اليونان.
وقد وصلت الدراما إلي ذروتها حينما رفض تسيبراس شروط الدائنين المهينة ولجأ إلي الشعب في استفتاء علي شروط التقشف. وحبس المتابعون الأنفاس بينما يتعرض الشعب اليوناني لضغوط الخارج من ناحية وضغوط النخب السياسية في الداخل للتصويت بنعم. لكن النتيجة جاءت مدوية لصالح لا في صراع وصفه أحد الأكاديميين الداعين للتصويت بنعم بالوجودي ورأي فيه مؤشرًا خطيرًا علي انفصال الشعب عن النخب السياسية وعلي حالة الإجهاد التي أصابت اليونانيين جراء برنامج التقشف الصارم والضغوط المذلة للدائنين. يصبح فاروفاكيس شخصًا غير مرغوب به في التفاوض مع الدائنين ويستقيل من الوزارة بعد التصويت بلا التي دعا إليها وتتباعد المسافة بينه وبين تسيبراس.
لكن الحبكة لا تنتهي نهاية سعيدة فهناك عقدة جديدة أو ذروة مضادة، حيث يذهب تسيبراس إلي المفاوضات مسلحًا بالتأييد الشعبي ولكن موقف الدائنين لا يتغير، فالجانب الألماني يزداد تشددًا رغم تأييد صندوق النقد الدولي لخفض ديون اليونان أو ما يعرف بقص الشعر في اللغة الاقتصادية الدارجة. يعود تسيبراس للبرلمان ليحصل علي تأييد لشروط الترويكا للمزيد من الإقراض، فينقسم حزبه ولكنه يحصل علي دعم الخصوم السياسيين، مما ينذر بفصل جديد في الأزمة السياسية قد يؤدي إلي انتخابات مبكرة في نهاية العام.
وفي الواقع أظهرت الأزمة هشاشة منطقة اليورو وقوة رأس المال. فأزمة اليونان لا تختلف عن الأزمة الاقتصادية وانكماش الاقتصاد الغربي في 2008 والتي تسبب فيها الإقراض غير المسئول الذي قامت به البنوك والمؤسسات المالية الكبري. لكن الحكومات الغربية ألغت ديون البنوك وضخت فيها الأموال. أما في أوروبا فقد ظلت سياسات حكومات الدول المقرضة لليونان مثل ألمانيا وفرنسا ضخ مزيد من القروض منذ أزمة 2010، سياسة سماها فاروفاكيس «المد والتظاهر» أي مد الأجل والتظاهر بأن اليونان ستصبح قادرة علي الدفع رغم وجود مؤشرات علي العكس. ولم تنجح هذه القروض في حل الأزمة في اليونان بل فاقمتها، كما يري اقتصاديون ليبراليون، لأن شروط الدائنين كانت توجيه تلك الديون للبنوك وللقطاع الخاص، وانخفض الناتج المحلي انخفاضًا شديدًأ وارتفعت معدلات البطالة إلي 50%. ولم تظهر في المفاوضات لغة حريصة علي الوحدة الأوروبية، بل تم تصوير الأزمة علي أن أموال الشعب الألماني والفرنسي تذهب لليونانيين الذين ينفقونها دون حساب للعواقب، رغم أن المستفيد الأكبر كان بنوك الدول في وسط أوروبا والتي ضخت مزيدًا من القروض في دول الأطراف. وكانت المفاوضات مع اليونان رسالة لدول مدينة أخري كإسبانيا والبرتغال. والمفارقة أن الحكومتين اليمينيتين في هذين البلدين شعرتا بالقلق من احتمالات نجاح حزب سيريزا اليساري القليلة في التفاوض علي خفض الديون لأن ذلك لن يكون في مصلحتهما في الانتخابات القادمة.
وعلي مستوي الأزمة في العالم بدا واضحًا أن تطبيق الحل الكينزي (نسبة للاقتصادي البريطاني كينز) التقليدي للأزمة، أي أن زيادة الإنفاق تؤدي إلي الخروج من الأزمة لم ينجح. وتبرز سردية أخري تختلف مع السردية الكينزية تقول بأن قدرة الدول الصناعية الكبري علي النمو بإنتاج أشياء نافعة قد انخفضت منذ السبعينات، وأن المبالغة في الإقراض كانت للتغطية علي هذه الأزمة.
(المصدر: الأهرام 2015-07-25)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews