المصارف المركزية وتحسين آفاق النموّ
ساعدت عملياتُ التيسير الكمّي في تعزيز النموّ ورفع التضخم من خلال شراء الأصول، كما ساعدت الاقتصاد في اميركا وبريطانيا على تجنّب الانكماش.
وعلى رغم التردد الطويل بدأ المركزي الاوروبي أخيراً عملية مماثلة بعد أن واجه انتقاداتٍ شديدة كونه سمح لمعدّل التضخم في منطقة اليورو بالتراجع نحو السلبي وأقل بكثير من الهدف والذي هو ٢ بالمئة على الرغم من تبريرات صانعي السياسات في فرانكفورت وهي أنّ هذا التردد مردّه الاستفادة من تجربة اليابان والاحتياطي الفيدرالي وبنك انكلترا وتقييم أثر شراء الاصول هذه، إلّا أنه وفي الواقع جاء متأخّراً وقد يكون أقل كفاءة من أماكن أخرى.
وعلى ما يبدو فإنّ الصورة حالياً أصبحت اكثرَ وضوحاً مع إزالة مجلس الاحتياطي الفيدرالي كلمة «الصبر» من خطابه ناهيك عن تباطُئه في زيادة معدّل سعر الفائدة الرسمي وكذلك الدراسة الفصلية للإقراض المصرفي والتي تمّت في الاتحاد الاوروبي وأظهرت على ما يبدو إشارات ايجابية لعملية التسيير الكمّي هذه علماً أنها جاءت أيضاً هي الأخرى متأخرة وبحاجة الى ترجمة فعلية.
واذا كانت جانيت يلين رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في حال ترقّب لمؤشرات اقتصادية جديدة من نسب بطالة والانفاق الاسري الاستهلاكي يبدو أنّ ماريو دراغي متفائلٌ بحسن سير هذه العملية وأثرها في الاقتصاد الحقيقي وهي تمنحه حجة قوية في مواجهة المشكِّكين بعملية التيسير الكمي هذه.
ويبقى المهم القنوات التي سوف تُستخدم فيها عملية شراء الاصول هذه والتي وإن نجحت تكون قد وفّرت على اوروبا عقداً من الانكماش كما انها ساعدت الولايات المتحدة في خفض معدل البطالة كذلك ساعدت بريطانيا في رفع نسبة الناتج المحلي بنحو 0.18 بالمئة وزادت التضخم بنسبة ٠،٣ بالمئة.
هذا، وتبقى أرقام اميركا وبريطانيا فعلية وحقيقيه وقد تكون العملية أظهرت فوائد ديناميكية المصارف المركزية في هذين البلدين اللذين وللعلم باشرا بالعملية آخذَين في الاعتبار عاملَين اساسيَين: ضرورة توفير القروض للمستهلكين والأُسر المعيشية كونه العامل الوحيد في وضع اقتصادي متراجع، وضرورة اعتماد سياسات نقدية غير تقليدية.
إلّا أنّ اوروبا وبفلسفة اقتصادية مناقضة جاءت متأخرة وهنالك الكثير من الأسباب التي تجعل من خطوته هذه أقلّ كفاءة مما جاءت عليه في اميركا وانكلترا، وقد تكون مردها لهذه الاسباب:
١- دور المصارف ولا سيما أنّ منطقة اليورو والشركات فيها تعتمد اعتماداً كبيراً على قطاع البنوك أكثر من منافسيها الاميركيين وحسب دراسات جرت يبدو أنّ الشركات في اوروبا تعتمد بنسبة ٨٠ بالمئة على القطاع المصرفي و٢٠ بالمئة فقط على اسواق المال، ما يعني أنّّ كلّ ١٠ يورو اقتراض من الشركات الاوروبية ثماني منها تأتي من المصارف والباقي من اسواق رأس المال. والعكس تماماً بالنسبة لأميركا والتي تعتمد فيه الشركات في العالب على عمليات الاقراض هذه على اسواق رأس المال.
لذلك كثيراً ما يعتمد المركزي الاوروبي على المصارف في إنجاح هذه العملية وكلّه متوقّف على رغبة المصارف بذلك. هذا وحسب ما ذكرناه وعلى ما يبدو فإنّ تقدير عملية الاقراض هذه للفصل الأول قد تكون نجحت إذ إنّ حوالى ٣٥ بالمئة من القطاعات التي شملها الاستطلاع (١٤٢ مصرفاً بالأجمال) اأظهرت استعدادها لاقراض الشركات بينما ٢٣ بالمئة ترغب باقراضها للإسكان و٢٥ بالمئة اظهرت رغبة بإقراض المستهلكين.
وعلى رغم مصداقية هذا التقرير جاءت الآراء متفاوتة حول اهميته إذ إنّه لا شيء يضمن أنّ المصارف سوف تقوم بالفعل بعملية الاقراض هذه كون الاستبيان هذا قام به المركزي الاوروبي ما يعني نوعاً من التمييز أضف الى ذلك الاحتياجات التنظيمية للضغط على المقرضين أيْ المصارف في إبقاء ميزانياتها تحت السيطرة ولا ننسى رداءة عمليات إقراض عدة في بلدان متعدّدة ما يجعل المصارف متردّدة في توسيع عملية قروضها.
وللعلم وعلى رغم الاستبيان الذي نشره المركزي الاوروبي فإنّ وضعية الامور على شكلها الحالي لا تبشر كثيراً بإفراط ممكن في عملية الاقراض هذه كذلك فإنّ المعايير ما زالت متشدّدة على قروض الاسكان كذلك على القروض الاستهلاكية.
٢- الصادرات ولا سيما أنّ معظم الاقتصاديين يراهن على دور عملية التسيير الكمّي على العملة ما سوف يؤدّي حتماً الى خفض سعر اليورو ويساعد على زيادة الصادرات مع العلم أنّ تجربة المصارف المركزية الاخرى جاءت معاكسة لهذه المعادلة البسيطة ولا سيما في المملكة المتحدة حيث إنه على رغم تراجع سعر صرف الجنيه الاسترليني بقي العجز التجاري على حاله كذلك هي الحال بالنسبة لليابان إذ إنه وعلى رغم الانخفاض الحاد في قيمة الين منذ ٢٠١٢ لم ترتفع وللعلم الصادرات اليابانية بنسب كبيرة تُذكر.
وحسب Michala Marcussen و زملائه في Société Générale قد تكون احد اهم اسباب هذا الأداء المخيّب للآمال هو تغيير طبيعة التجارة الدولية ما يعني ليس فقط انخفاض نسبة قيمة البضائع المنتجة حالياً في منطقة اليورو كذلك التحسّن في الأسعار المنافسة التي تنبع من انخفاض اليورو واصبحت اقل اهمية مما كانت عليه في الماضي.
٣- سياسات المصارف المركزية وإجماع الهيئات المؤثرة حول هذا النوع من السياسات النقدية غير التقليدية واذا ما حاز الاحتياطي الفيدرالي وبنك انكلترا على اجماع مطلق لهذه السياسة فإنّ حاكم بنك اليابان لم يكن محظوظاً كزملائه وهذا ما يُقال بالفعل بالنسبة للسيد دراغي ما يعني أنّ هذا النوع من الانقسامات قد يحدّ من نطاق البرنامج ويقوّض صلاحية دراغي في مدة هذا البرنامج وعملية شراء السندات.
لذلك وبالمطلق يبقى دور المصارف المركزية اساسياً في أيّ عملية نموّ وتحديد آفاقها وفعاليتها. وتكمن الخطورة دائماً في هشاشة النظام المصرفي والأزمات المالية والسياسية التي تمرّ فيها الدول ممّا يعيق الإئتمان ويقوّض إعادة هيكلية المصارف ويعيق ايضاً آفاق النموّ.
(المصدر: الجمهورية اللبنانية 2015-05-28)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews