الفلسطينيون بين الإنكار الأمريكي والاعتراف الأوروبي
المسافة السياسية بعيدة بين الموقف الأمريكي والموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية، ودعم موقف الشعب الفلسطيني للحصول على دولته وإنهاء الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي الفلسطينية حتى تقوم هذه الدولة . تاريخياً تتحمل الدول الأوروبية المسؤولية الكاملة وخصوصاً بريطانيا، فهي كانت السلطة المنتدبة على فلسطين وصاحبة وعد بلفور، وعملت طوال سنوات انتدابها على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وقيام مؤسساتهم، وحصولهم على الأرض، وصولاً إلى عرض القضية على الأمم المتحدة وانتزاع قرار بقيام "إسرائيل" كدولة، وهذا الموقف الأوروبي مازال قائماً، وتحكم أوروبا علاقات اقتصادية وسياسية قوية ب "إسرائيل" أما الولايات المتحدة فعلاقاتها تصل إلى حدود علاقات التحالف الاستراتيجي والالتزام بأمن وتفوق "إسرائيل"، وهذ الموقف هو الذي أسهم في بقاء "إسرائيل" كدولة، وحال دون أن تفرض عليها أي عقوبات جراء استمرار اعتداءاتها، وتحول دون قيام الدولة وممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير مصيره . ولم تقتصر العلاقة على حماية "إسرائيل"، بل مدها بكل عناصر القوة، إذ وصل حجم ما قدمته الولايات المتحدة إلى أكثر من مئة مليار دولار منذ وجود الكيان . بل والأهم في هذه العلاقة هو إجهاض أي دور للأمم المتحدة في معاملة "إسرائيل" مثل أية دولة تنتهك الميثاق ويطبق عليها الفصل السابع من الميثاق، والذي بموجبه يمكن أن تفرض عقوبات عليها، ولو حدث ذلك لما وصلت القضية الفلسطينية إلى هذه المرحلة من التعقيد، وما اندلعت هذه الحروب العديدة، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ولقامت الدولة الفلسطينية وتغير وجه المنطقة، وأصبحت "إسرائيل" دولة عادية .
لقد استخدمت الولايات المتحدة "الفيتو" أكثر من خمسين مرة للحيلولة دون صدور قرار يدين "إسرائيل" ويلزمها بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وهو الذي يفسر لنا استمرار "إسرائيل" في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وفي الاعتداءات التي شنتها على قطاع غزة، وفرض حصار عليه، وكل صور انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني الآدمية .
ولعل الأخطر في الموقف الأمريكي مقارنة بالموقف الأوروبي هو احتكار عملية المفاوضات، وازاحة أي دور لأوروبا، أو الأمم المتحدة، هذا الاحتكار الأمريكي للمفاوضات كان هدفه فقط إطالة أمدها حتى تحقق "إسرائيل" ما تريد، وتمنحها غطاء دولياً لكل سياستها المعادية لميثاق الأمم المتحدة، واليوم تلوح الولايات المتحدة وبشكل صريح وعلني بأنها ستستخدم "الفيتو" ضد أي مشروع قرار فلسطيني - عربي يطالب مجلس الأمن بتحمل مسؤولياته بإنهاء الاحتلال "الإسرائيلي" خلال فترة زمنية لا تزيد عن ثلاث سنوات . ورغم أن مشروع القرار هذا لا يستند للفصل السابع، وجاء بصياغات توافقية مرنة إلى حد كبير، إلا أن الولايات المتحدة تهدد باستخدام "الفيتو"، وهذا الاستخدام يعني نكران حقوق الشعب الفلسطيني في دولته، وهو موقف يزيد من العداء للسياسات الأمريكية، بل وتذهب الولايات المتحدة أبعد من ذلك بالتهديد بالضغط على السلطة الفلسطينية بوقف كل أشكال المساعدات المالية والاقتصادية .
ملخص هذا الموقف الأمريكي أنه أسهم في استمرار القضية الفلسطينية بدلاً من حلها، وكلنا يعرف موقف الكونغرس الأمريكي الأكثر دعماً لسياسات "إسرائيل" وبالمقابل فإن الموقف الأوروبي فيه قدر كبير من التغير الايجابي والعقلانية، والأقرب إلى دعم الموقف الفلسطيني، وهنا يجب التذكير بالدعم الأوروبي للموازنة الفلسطينية التي تغطي رواتب آلاف الموظفين، ودعم مؤسسات المجتمع المدني والدعم الاجتماعي للأسر الفقيرة، وقد تطور هذا الموقف بالاعترافات المتزايدة التي منحتها البرلمانات الأوروبية للدولة الفلسطينية، وهي وإن كانت رمزية لكنها مقارنة بالموقف الأمريكي تعتبر خطوة متقدمة في تثبيت الحق الفلسطيني، وهذا الاعتراف يشكل رسالة لجميع برلمانات العالم بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني من حقه أن يعيش في دولته وإنهاء الاحتلال "الإسرائيلي" . وتذهب السياسة الأوروبية إلى حد الضغط على "إسرائيل" لوقف استيطانها .
الموقف الأوروبي أكثر وضوحاً، ونقداً وصراحة، ومن مظاهر هذه السياسة أشكال المقاطعة للسلع الواردة من المستوطنات، والمقاطعة الأكاديمية، ولا ننسى موقف المحكمة الأوروبية برفع اسم حركة حماس من على قائمة الإرهاب الأوروبية . لا شك أن هذه السياسات ما زالت في مراحلها الأولى، وقد تبدو متواضعة لكن يمكن البناء عليها وتطويرها بما يدعم قيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، ويمكن أن تشكل سياسة متوازنة للسياسة الأمريكية، وقد تدفع في وقت لاحق إلى تغيير في السياسة الأمريكية، وهي سياسة لا تتغير لوحدها لأنها مرتبطة بالمصالح، وهنا تكمن أهمية توظيف العلاقات العربية نحو مزيد من الدعم للموقف الأوروبي . فالسياسة تقوم على المصالح وقدرة الدول على التأثير في سياسات الدول الأخرى، وأوروبا تبقى الأقرب، ولها تأثيرها ووزنها في القرارات الدولية . ويبقى الموقف الفلسطيني حاسماً في هذه المعادلة السياسية الإقليمية والدولية .
(المصدر: الخليج 2015-01-01)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews