حاجة تونس إلى خطة لإنقاذ الاقتصاد
تونس في الوقت الحاضر تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، السبب في ذلك، أن الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائدا منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، لفظ أنفاسه الأخيرة مع اندلاع الثورة، وحتى المؤسسات الليبرالية الدولية، مثال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووكالات تصنيف ومنتديات عالمية أو بصيغة مقتضبة كامل حارسي المعبد الليبرالي الجديد المسيطر حاليا على الاقتصاد الدولي، وعلى الفكر الليبرالي الدوغمائي، يقرون جميعاً بموت الأنموذج التنموي السابق، وضرورة إيجاد بديل له.
وكانت تونس شهدت منذ سنة 2006 بداية التراجع في الترقيم السيادي للبلاد، مما تسبب في تراجع النمو لاسيَّما خلال الفترة الممتدة بين 2007 و2009، وانخفاض القيمة المضافة أساساً في الصناعات التحويلية والسياحية والتجارية خصوصا في سنة 2009، الأمر الذي أدى إلى تراجع الدخل الفردي المتاح ليصل إلى 5641دينارا، حوالي (3133 دولارا)، وبدأت بذلك تبرز ظواهر الفقر وضعف تكوين رأس المال الثابت، إذ لم تتجاوز نسبة ارتفاعه 5.8%، لتتكثف موجات الهجرة من المحافظات الداخلية المهمشة والفقيرة والمحرومة من مشاريع التنمية، نحو التجمعات الحضرية الكبرى، خاصة في تونس العاصمة، وسوسة. وصفاقس.
ومنذ انفجار الثورة، وطلية حكم الترويكا، عاشت تونس خرابا حقيقيا لاقتصادها، محا النمو المتسارع والمستقر الذي عاشته البلاد على مدى أكثر من عقد بشهادة المنظمات الدولية المانحة، والشركاء الاقتصاديين لتونس مثل الاتحاد الأوروبي، وبشهادة الشعب التونسي بمختلف طبقاته الاجتماعية وأجياله، الذي صار أكثر من ثلثه فقيراً أو تحت خط الفقر. وحسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء، فقد تفاقمت نسبة الفقر الشديد من 15% في أواخر سنة 2009 من مجمل السكان في 2013 حسب المسوحات الميدانية لمصالح وزارة الشؤون الاجتماعية، فأصبحت نسبة الفقر اليوم تشمل أكثر من مليوني تونسي صاروا تحت خط الفقر بحسب المعايير الوطنية والدولية، ويعانون بالتالي صعوبة في التغذية، ونقص مداخيلهم ما ألجأهم إلى التداين المفرط لتلبية أبسط مقومات العيش، إذ بلغ قائم التداين العائلي 16091 مليون دينار(حوالي 9مليارات من الدولارات)، وفق معطيات مركزية المخاطر للبنك المركزي التونسي الذي أحصى 800 ألف عائلة تونسية ترزح تحت الديون.
وكانت الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة الإسلامية تفتقر إلى منوال جديد للتنمية، فتراجع النمو والتنمية في عهدها، بل انعدما أو كادا يضمحلان رغم أرقام نمو سلبية غالباً أو مبالغ فيها لا تناسب الواقع بسبب الفقر المستشري والأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، والتي رهنت مستقبل الأجيال القادمة عقوداً لدى الدائنين، وقضت على أنموذج التنمية السابق لحكم الترويكا على علاته، ونسفت نجاحاته وصارت التنمية غاية يصعب تحقيقها. فقد تفشت ظاهرة التهريب في ظل حكم الترويكا، إذ تسبب في خسائر يومية طائلة لخزينة الدولة، وخلقت مشاكل جمة للمؤسسات المنظمة، فأضحت المغذي الرئيسي للتجارة الفوضوية التي تحولت إلى اقتصاد خفي قائم الأركان. وحسب دراسة أعدها البنك الدولي، فإن التهريب يكلف تونس سنويا خسائر تقدر بنحو 6600 مليار من المليمات، أي ما يعادل 3.6مليار دولار.
ومن المعروف أن عائدات التهريب والاقتصاد الموازي تعود بالدرجة الرئيسية لجيوب عصابات المهربين، أو المافيات الاقتصادية، وهي لا تعود بالنفع على الفئات المهمشة، كما هو الاعتقاد الشائع في المجتمع. وفضلا عن ذلك، فإن التهريب والاقتصاد الموازي تسببا ولا يزالان في فقدان مليون تونسي لمصادر رزقهم، ويهددان مواطن الشغل في القطاع المنظم من الاقتصاد. وتتضح الأزمة الاقتصادية في تونس راهنا، في انهيار التوازنات المالية للدولة، وعجز قياسي في ميزان المدفوعات رغم التداين المفرط الذي بلغ في مجمله خلال السنوات الثلاث الماضية 19078 مليون دينار، أي ما يعادل 10مليارات دولار، مما تسبب في تراجع القدرة الشرائية للمواطن بنسبة 22%، ما أحدث تضخما مفتوحاً يفوق 6%.
وشهدت تونس تراجعاً شديداً في ترتيبها الاقتصادي، مثلما جاء في الترتيب الأخير لمجلة «فوراين أفارس» للدول الهشة والتي أسندت بالاعتماد على جملة من المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبة 87 إلى تونس، وهي مرتبة تبعث على الخوف، وتهم نقاط الضعف حسب المجلة بالخصوص قطاعين أساسيين وهما قطاع الخدمات العامة وجهاز الدولة بصورة عامة، وهي مسائل يجب أن تحظى بالأولوية المطلقة من قبل الحكومة القادمة حتى لا تتحول تونس إلى بلد فاشل.
في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة، المتمثلة في استمرار هبوط قيمة الدينار التونسي إلى قاع البئر، وتوقف السياحة التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد التونسي، وزيادة معدلات البطالة بصورة كبيرة، لاسيَّما بين الشباب حاملي الشهادات الجامعية (250000)، والتهاب الأسعار، باتت تونس تحتاج إلى برنامج اقتصادي للإنقاذ يقطع مع الأنموذج الاقتصادي السابق الذي وصل إلى مأزقه المحتوم بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، ويؤسس لأنموذج اقتصادي جديد يحل محل رأسمالية المحسوبية والفساد، الذي فرضها النظام السابق حسب التقرير الأخير للبنك الدولي المخصص للاقتصاد التونسي.
إن أول شروط وضع خطة لإنقاذ الاقتصاد، هو تأمين الاستقرار السياسي في البلاد بعد أربع سنوات من الانتقال الديمقراطي المتوتر والمرتبك، لتمكين الحكومة المقبلة من مواصلة المقدرة على إنعاش الاقتصاد والمؤسسات الكبرى المهددة بالإفلاس، وتوضيح الرؤية في مجال الاستثمار العمومي، ومعالجة الاختلالات الكبيرة في ميزانية الدولة التي ستناهز حسب التقديرات 2500 مليون دينار(1400 مليون دولار) في أواخر شهر ديسمبر الجاري، فضلاً عن إيجاد حل لضخ إيرادات جديدة على المستوى النقدي قدرت إجمالاً بنحو 55 مليار دينار(30مليار دولار)، منها 22 مليار دينار(12مليار دولار) ديون خارجية إضافية، والباقي استثمارات أجنبية، رغم أن قيمة الدين الخارجي لتونس وصلت إلى حد 17 مليار دولار، وبات يثقل كاهل الاقتصاد التونسي في ضوء انتظار ارتفاع قيمة خدمة الدين بنسبة 50% في غضون السنتين القادمتين.
ويجمع الخبراء الملمون بالشأن التونسي، أن الأولوية للإصلاح الاقتصادي يجب أن تكون موضع اتفاق وإجماع مجمل الحساسيات ومكونات المجتمع المدني بالبلاد، وذلك في سياق تكريس مفهوم النمو المندمج، ومقاومة آفة البطالة، ومعالجة معضلة الفقر المستفحل في المحافظات المهمشة والفقيرة في تونس العميقة، وعدد من التجمعات الحضرية الكبرى بالبلاد، حيث إن الإدماج التنموي يمر عبر إيجاد الصيغ الفعالة للمشاركة في تحديد حاجيات كل محافظة من مشاريع تنموية، وبرمجتها والإشراف على إنجازها. وفضلاً عن ذلك، يقتضي الإصلاح الاقتصادي، بلورة إستراتيجية من أربعة محاور رئيسية: أولها، إعادة بسط سيادة الدولة، وثانيها، إقرار مناهج لمحاربة الفساد المستشري في البلاد، وثالثها، التقييم الدقيق للأضرار الحاصلة وتبعاتها وفق مقاربة معيارية استشارية واضحة المعالم، ورابعها، البحث عن سبل تغطية المخاطر باعتماد الأساليب والمناهج الملائمة.
وتقتضي خطة الإنقاذ وتجنب المحاذير، الإقرار بضرورة«خطة مارشال» جديدة في تونس، تساهم فيها الدول المانحة: الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، ودول مجلس التعاون الخليجي، والمؤسسات المالية الدولية، باعتبارهم الشركاء الحقيقيين لتونس، وتركيز حقيقي للامركزية واللامحورية الإدارية، وإعادة هيكلة التقسيمات الإدارية للجهات، ورصد القدرات البشرية والمادية الكفيلة بإنجاح هذا المسار الطموح، ودعم النمو مع تقوية الدعائم المالية للنسيج الاقتصادي المهيكل المستقطب لليد العاملة، والسعي قدر الإمكان إلى إدماج الآلاف من العاملين في الاقتصادي الموازي، لتفادي خطره على الاقتصاد المهيكل. كما تستدعي خطة الإنقاذ أيضاً تطوير البنية الصناعية وفق المعايير الدولية القائمة على تحديث المناطق الصناعية والأقطاب اللوجستية والتي يجب أن تخضع لسلطة الدولة التونسية بعيداً عن سياسة المناولة المخربة لعوامل الإنتاج.
بوابة الشرق 2014-12-12
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews