أموال تونس المنهوبة والأمن الاقتصادي والاجتماعي

احتضنت تونس من 8 إلى 10 ديسمبر الجاري المؤتمر العربي الرابع لاسترداد الأموال المنهوبة المهرّبة إلى الخارج. واللافت للانتباه أن من أشرف على تنظيم هذا المؤتمر هي منظمة “أنا يقظ” وهي منظمة مدنية مستقلة وليست وزارة العدل التونسية ولا أي جهاز رسمي آخر. وشاركت في المؤتمر 4 دول عربية فقط إلى جانب تونس هي مصر ولبنان والمغرب والأردن ودولتان غربيتان هما سويسرا وروسيا.

وكان المؤتمر العربي الثاني لاسترداد الأموال المهربة إلى الخارج قد انعقد في مراكش بالمغرب سنة 2013 حضرته 40 دولة، بينما انتظم الثالث في جنيف في نوفمبر 2014 وانبثق عنه قرار تخصيص مبلغ 5 ملايين دولار للدول المتضررة من تهريب أموالها لا سيما بلدان الربيع العربي لتنظيم برامج لبناء القدرات الإقليمية في مجال استرداد الممتلكات سنة 2015.

ولكن تأتي سنة 2015 وتبقى العوائق التي تعسّر عملية استرداد هذه الأموال قائمة. ورغم أنّ 167 دولة كانت قد وقّعت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، فإنّ تونس لم تتمكّن من استعادة إلا جزء ضئيل من أموالها في الخارج سنة 2013 ومن دولة واحدة هي لبنان بحجم 28 مليون دولار، بينما عبّرت لوكسمبورغ مؤخرا، وهي أحد الملاذات الآمنة للأموال المهرّبة، عن نيّتها إعادة جزء من الأموال التونسية المهربة عندها.

ولئن أعلنت الأمم المتحدة عن عزمها على مساعدة تونس في استرداد أموالها فإن الجامعة العربية مازالت غير معنية بالموضوع. فالمنتدى العربي لاسترداد الأموال المنهوبة أنشئ سنة 2012 بمبادرة أميركية. بينما الجامعة العربية لم تساهم في هذا المنتدى ولم تشارك في مؤتمر تونس الأخير. ولم تتقدم بأيّ مقترحات لمساعدة الدول العربية المتضررة من تهريب الأموال، لا سيما تونس ومصر اللتين تواجهان صعوبات اقتصادية واجتماعية جمّة.

وتقدّر الأموال التونسية المنهوبة في الخارج بأنها تتراوح بين 29 و32 مليار دولار أي ما يفوق ضعفيْ ميزانية تونس التي تبلغ سنة 2015 حوالي 14 مليار دولار. وقد بلغت نسبة التداين الخارجي في ميزانية 2015، 55 بالمئة، وهو ما يعني أنّ أكثر من نصف السيولة المالية التي تحتاج إليها تونس لا تنتجه تونس، وإنما تقترضه لسدّ حاجياتها الشيء الذي يهدد استقلالها وأمنها الاقتصادي والاجتماعي.

ويقدّر خبراء أنّ ما يوازي 40 بالمئة أو أكثر من الميزانية التونسية أي ما يعادل تقريبا 6 مليارات دولار من العملة المحلية والعملات الأجنبية تتداول في السوق التونسية خارج رقابة الدولة ضمن التهريب والاقتصاد الموازي. وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات أن نسبة التهرب الجبائي في تونس بلغت 80 بالمئة علمنا أن تونس تتعرض لإعاقات حقيقية تمنعها من تحقيق التقدم والازدهار والأمن الاقتصادي والاجتماعي.

وإذا كان من أسباب عجز تونس عن استرداد أموالها المهربة في الخارج ضعف التعاون الدولي والعربي خاصة في هذا المجال، فإن الأسباب الرئيسية تعود إلى الداخل التونسي. وهي تتلخص في أربعة أسباب رئيسية.

السبب الأول هو انعدام الإرادة السياسية الحقيقية منذ الثورة إلى اليوم لاستعادة هذه الأموال ذلك أن نسبة مهمة من هذه الأموال موجودة في بنوك دول صديقة للترويكا التي حكمت تونس أكثر من سنتين. ولم تكن الترويكا مهتمة بهذا الموضوع ولم تقدر حجم هذه الأموال وحاجة الشعب التونسي إليها، لأنها فتحت الأبواب مشرعة على المال السياسي عبر الجمعيات المشبوهة التي خربت تونس.

والسبب الثاني يتمثل في غياب استراتيجية واضحة لمقاومة الفساد والتهريب منذ الثورة إلى اليوم. والمتابع لمداولات ميزانية تونس لسنة 2015 يلاحظ إصرار الأغلبية النيابية الداعمة للائتلاف الرباعي الحاكم على تمرير قوانين وإجراءات تحد من دور الدولة الرقابي على القطاع الخاص الذي يبقى بعيدا عن المراقبة. كما لم تتضمن ميزانية وزارة المالية قوانين واضحة لاستخلاص حق الشعب التونسي من المتهربين من دفع واجباتهم الضريبية. وتبقى نسبة التهرب الجبائي عالية ويظل الموظفون والأجراء والعمال يدفعون أكثر من 80 بالمئة من موارد الدولة الجبائية التي تظل واهنة جدا.

السبب الثالث يتعلق بالفشل الذريع للدبلوماسية التونسية التي تبقى بلا عقيدة جديدة تفتقر إلى أسباب الحياة والنشاط الفاعل. الدبلوماسية التونسية متكلسة جامدة تفتقر إلى الإبداع والإنتاج ويقف دورها عند التمثيل وإحصاء التونسيين في الخارج دون القدرة على تقديم ما يحتاجون إليه من خدمات في الغالب الأعم. ولم تنجح الدبلوماسية بعد خمس سنوات من الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في إعادة فلس واحد إلى تونس.

والسبب الرابع هو العمل المستمر منذ الثورة إلى اليوم ومع كل الحكومات على محاولة توظيف القضاء وضرب استقلاليته. وقد عاين التونسيون ذلك أثناء مناقشة قانون المجلس الأعلى للقضاء في مجلس نواب الشعب، وهو ما دفع المعارضة البرلمانية إلى الطعن في دستوريته. وتعرض القانون إلى تعديلات بل تشويهات وتحريفات دفعت وزير العدل السابق محمد الصالح بن عيسى إلى التبرؤ منه ممّا أدى إلى إقالته. والشرط الرئيسي الذي تضعه الدول الغربية لمناقشة موضوع إعادة الأموال المنهوبة هو استقلال السلطة القضائية التي ستتولى إدارة الجانب القانوني لإعادة الأموال.

أكّدت الدراسات أن أكثر من 90 بالمئة من المنضمين إلى التنظيمات الإرهابية في الداخل والخارج هم من المفقرين والمعطلين عن العمل واليائسين بسبب انعدام الفرص. ولذلك فإن تركيز الدولة التونسية كل جهودها واستراتيجياتها من أجل استعادة هذه الأموال في ظرف زمني منظور سيكون حلاّ ناجعا وكافيا للقضاء على الفقر ولتحقيق التنمية ولتوفير فرص العمل والأمل للشباب ولتحقيق أهداف الثورة وللقضاء على أسباب الإرهاب. فهل تتعدل بوصلة حكام تونس نحو هذا الهدف؟

(المصدر: العرب اللندنية 2015-12-11)