المخاطر الاقتصادية والاجتماعية لأزمة العقار
قد لا يعي تجار العقار والأراضي تحديدا المخاطر الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، التي تترتب على قراراتهم المستهدفة اتجاها واحدا لا سواه المتمثل في الرفع عنوة لأسعار العقار، سواء بوجود مبرر أو عدمه! وهو ما بينته وأكدت على التورط فيه حسبما أظهرته مختلف المؤشرات الاقتصادية (في مقدمتها نمو السيولة، قوة الريال الشرائية)، آلية التداولات التي جرت في السوق العقارية المحلية طوال الفترة 2006-2014، والتركز الكبير لدوران الأموال والثروات بنحو 94 في المائة من قيمة الصفقات العقارية، وبأكثر من 99 في المائة من المساحات على الأراضي فقط!
حينما تتسبب التشوهات التي تعج بها السوق العقارية من ارتفاع شاهق لكعب احتكار الأراضي بمساحات شاسعة جدا، وتركزها في يد قلة من المقتدرين ماليا، ثم تتضارب مئات المليارات من الريالات على ما تبقّى من مساحات محدودة منها شراء وبيعا بحثا عن أسرع وأكبر الهوامش الربحية في أقصر زمن ممكن، يدفع ملاك تلك الأموال إلى السلوك المضاربي الخطير الأثر كأول الأسباب؛ تقلص وشح قنوات الاستثمار البديلة التي لو وجدت بصورة أكبر من حيث المرونة وسهولة تأسيسها، لما تفاقمت تلك المضاربات العقارية بالمشهد الذي حدث طوال الأعوام الأخيرة، ولما وجدت أسعار الأراضي والعقارات يتضاعف نموها في أقل من عقد زمني بأكثر من سبعة أضعاف نمو دخل الأفراد العاملين.
أقول حينما يتسبب ما تقدّم ذكره أعلاه كأهم وأثقل جزء من العوامل التي أدت إلى التضخم الهائل في أسعار الأصول العقارية (تحديدا الأراضي)، وتنتقل عدواها السعرية إلى كل ما على تلك الأراضي من منتجات عقارية، القديم منها والجديد على حد سواء، ومنها إلى أسعار الإيجارات، لتسقط أخيرا فاتورة تكلفتها الباهظة جدا على رؤوس أفراد المجتمع، المعتمدين في مصادر دخلهم على رواتب وأجور لا يصل نموها السنوي حتى إلى عشر النمو المتسارع لأسعار الأراضي والعقارات وأثمان إيجاراتها السنوية المرهقة، فكل هذه التداعيات ستخلف وراءها آثارا اقتصادية واجتماعية وأمنية لا يمكن لأي ذي عقل أن يتجاهلها على الإطلاق!
لقد غطت كثير من المقالات والتقارير حول الشأن العقاري جزءا واسعا من الآثار الاقتصادية، وبعضها امتدت تغطياته إلى جزء لا بأس به من الآثار الاجتماعية كارتفاع معدلات الطلاق والتفكك الأسري، نتيجة عدم قدرة رب الأسرة على الوفاء بأعبائه ومسؤولياته تجاه أسرته، إضافة إلى تعسر الزواج على الشباب، وزيادة معدلات العنوسة بين الفتيات، نتيجة الصعوبات المالية وعدم قدرة الشباب بمستويات دخولهم المتدنية على تحمل تكلفة الزواج وتأسيس أسرة، وعدم القدرة على تحمل تكاليف الإيجارات المرتفعة وبقية المصروفات المعيشية اللازمة للأسرة. وفقا لبيانات وزارة العدل ارتفعت حالات الطلاق خلال 2014 إلى نحو ثلاثة أضعاف حالات الزواج (الأعلى عالميا)، لتصل إلى نحو 44 ألف حالة طلاق، مقابل حالات زواج تناهز نحو 11.8 ألف حالة زواج!
أمام مثل هذه التداعيات الاجتماعية المختصرة؛ لا يمكن التنبؤ بالآثار السلبية على المجتمع نتيجة لها، إلا أنه من المعلوم أن من نتائج التفكك الأسري، أن تتعسر تربية الأطفال في بيئة أسرية مستقرة، ما سيعرضهم دون شك إلى التشتت بين الآباء والأمهات، وزيادة تعرضهم للعنف الأسري وعدم الوفاء لهم بالقدر اللازم من التربية والعناية، الذي بدوره سينتج منهم أفرادا غير أسوياء نفسيا واجتماعيا، ولك أن تتخيل النتائج الوخيمة مستقبلا على البلاد والعباد باستمرار تلك العوامل المالية والاقتصادية المعقدة، التي جاء أغلبها مما تعانيه الأسرة والمجتمع على حد سواء من تضخم غير مقبول على الإطلاق في أسعار الأراضي والعقارات، ولك أن تتخيل أيضا الأعباء المالية والاقتصادية التي قد يكابدها الاقتصاد الوطني نتيجة الجرائم والسرقات وأشكال الفساد المالي والإداري، هذا عدا احتمال التورط في جرائم أخطر إجراما كالتستر التجاري أو ترويج المخدرات وما شابه تلك الجرائم الخطيرة، إما كخيار خطير جدا قد يلجأ إليه رب الأسرة لتعويض انخفاض دخله الثابت في الأجل القصير والمتوسط، أو (وهو السيناريو الأكثر تدميرا لأي مجتمع) أن تتسبب تلك الأوضاع الأسرية غير المستقرة في الأجل الطويل بإيجاد أجيال من الأفراد غير الأسوياء دينيا وتربويا وأخلاقيا.
وقس أيضا ذات النتائج نفسها أعلاه؛ في حال ظن البعض أن زيادة القروض الممنوحة للأفراد سواء لأجل تملك المساكن بأسعارها المتضخمة جدا في الوقت الراهن، أو لأجل تلبية المصروفات الاستهلاكية التي تضاعفت فواتيرها بصورة ملفتة، فهذا يعني استمرار ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات إلى أعلى مما هي عليه اليوم، ويعني أيضا زيادة في استقطاع أغلب أجزاء الدخل الثابت لأرباب الأسر، ويعني أيضا زيادة في التحديات المعيشية والاجتماعية والمادية على أغلب أفراد المجتمع وأُسرهم، ويعني أيضا ارتفاعا أكبر في معدلات الطلاق والتفكك الأسري وتأخر سن الزواج للشباب والفتيات، ويعني أيضا لا -قدر الله- ارتفاعا أكبر في معدلات الجرائم والسرقات وترويج المخدرات ومظاهر الفساد المالي والإداري والرشاوى والتستر التجاري وخلافه من الأوبئة الإجرامية.
إن من السذاجة بمكان أن يظن المرء بعدم علاقة تفاقم أسعار الأراضي والعقارات بالصورة المخيفة والسريعة التي شهدناها خلال الأعوام الأخيرة، مع ما سبق من تداعيات اقتصادية واجتماعية، وهي النتائج التي أكدت حدوثها عديد من التقارير الدولية الصادرة تحديدا عن البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، والأمر بالنسبة لنا في المملكة لن يتطلب مشقة في إثباته بموجب البيانات الرسمية الصادرة عن أجهزتنا الحكومية المختلفة ذات العلاقة، بل إنه سيكون إحدى أولويات الكاتب في الفترة المقبلة لعرضه بالتفصيل والموثوقية، وكل هذا لأجل المشاركة في الرأي بهدف التسريع في اتخاذ التدابير اللازمة من الأجهزة الحكومية، والعمل العاجل واللازم للتصدي مبكرا قبل أن تتفاقم أوجه تلك الأزمة، ولتحصين وطننا الغالي وتعزيز أمنه واستقراره بما يحقق راحة المواطن وتوفير المسكن الملائم له، وهو ما سيكون له الحديث بالتفصيل والإحصاءات الرسمية قريبا بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق.
(المصدر: الاقتصادية 2015-03-23)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews