المياه حق إنساني وخير عام مجاني ... أم خدمة مدفوعة؟
«في أثرى دولة في العالم (الولايات المتحدة) يعيش الناس من غير مياه. وقطعها عنهم انتهاك لحقوق الإنسان. والمياه حق إنساني»، يقول ديميكو ويليامز، المدير السياسي لـ»كتيبة مياه ديترويت»، وهي منظمة تقدم مساعدات مباشرة (تسلم زجاجات مياه إلى مَن قطِعت عنهم) وأخرى سياسية (المطالبة بالتغيير وخفض فواتير المياه). ولكن هل الوصول إلى المياه حق إنساني؟ الحال في ديترويت الأميركية حيث يُلوح بقطع المياه عن 80 ألف مشترك لم يسددوا فواتيرهم، سلطت الضوء على مسألة بارزة وجوهرية في مدن العالم: هل الحصول على مياه الشفة حق إنساني أم أن تأمينها هو شأن تأمين خدمات الصرف الصحي ولمّ النفايات والعناية بالمنتزهات، من الخدمات البلديات التي تقدم لقاء بدل وضريبة؟ إثر تظاهرة في تموز (يوليو) الماضي في ديترويت، ألقي القبض على عشرات المشاركين، وطالب المتظاهرون بتنظيم لجنة من الأمم المتحدة تتقصى انتهاك حقوق الانسان، إثر التلويح بقطع المياه عمن لا يسدد ثمنها. ونزل 50 ألف متظاهر إلى شوارع دبلن، الأسبوع الماضي، حاملين لافتات تندد بـ»وزارة العطش» وتدين مشروع فرض ثمن للمياه. وإرلندا هي البلد اليتيم في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي الذي لا يجبي ثمن استخدام المياه. ولكن بدءاً من كانون الثاني (يناير) المقبل، ستزود المنازل حاسبات أمتار المياه المستهلكة من أجل تحصيل ثمنها.
وثمة احتجاجات وإضرابات شهدتها مدن أخرى إثر تخصيص قطاع المياه. ففي ساوباولو بالبرازيل، تزامن مشروع الخصخصة مع موجة جفاف، فانقطعت المياه عن نصف سكان المدينة خصوصاً عن الساكنين في أطرافها. وسيل التظاهرات في ساوباولو لم ينقطع منذ آب (أغسطس) الماضي. وفي كوشاهامبا ببوليفيا تظاهر ألفا شخص ضد خصخصة المياه، وأطلقت الشرطة قنابل مسيّلة للدموع على المتظاهرين. وقضى أحدهم في العنف. وفي تموز المنصرم، احتج السكان الاصليون في الاكوادور على قانون يصادر حقهم في إدارة مصادر المياه في أراضيهم.
وليس شاغل الناس مشاريع خصخصة المياه فحسب. فهم لا يترددون في النزول إلى الشارع للاحتجاج على تصدير المياه أو بيعها. ففي مارفا بتكساس، نزل السكان إلى الشارع هذا الصيف احتجاجاً على قرار البلدية بيع المياه إلى شركة تصديع صخور (تقنية مستخدمة في استخراج الغاز الصخري).
ولكن هل المياه خير عام وليست سلعة، ويفترض أن توفر مجاناً؟ في 2010، أقرت الأمم المتحدة بـ»الحق في (الحصول) على مياه شفة آمنة ونظيفة وصرف صحي». ووفق تقرير الأمم المتحدة الصادر في ذلك العام، الافتقار إلى مياه شفة نظيفة يودي بحياة عدد كبير من الناس يفوق عدد الذين يسقطون في العنف. ومياه الشفة ليست في متناول أكثر من 800 مليون نسمة في الدول النامية حيث يفتقر إلى خدمات صرف صحي تعزل المياه الآسنة عن مياه الشفة. وغياب الصرف الصحي يسبب أمراضاً مثل الكوليرا والتيفوئيد. لكن الأمم المتحدة، حين أقرت الحق الإنساني في مياه الشفة والصرف الصحي، قصدت رفع لواء ضحايا الحروب الأهلية والمجاعات الكبيرة وإدانة النقص في البنى التحتية.
ولم تقصد التوجه إلى العالم المتطور. وبعض من وجّه سهام النقد إلى المتظاهرين في دبلن وديترويت عاب عليهم أن بعضهم حمل آخر موديلات الهواتف الخليوية المتصلة بخدمات إنترنت مرتفعة الكلفة. وأعلنت مصلحة مياه ديترويت أنها ستجيز للمانحين ممن يرغبون في المساعدة أن يسددوا فواتير أشخاص مهددين بقطع المياه عنهم. بعضهم رحب بهذه الخطوة وبعض آخر رأى أنها تشجع على الاستغلال.
والإشارة إلى هواتف المتظاهرين في غير محلها وتصرف النظر عن المشكلة. فغالبية كبيرة ممن قد تقطع مياه الشفة عنهم من الفقراء. ونسبة الفقر في مدينة ديترويت هي الأعلى في الولايات المتحدة. والتقاطع بين الفقر وقطع مياه الشفة يعيد إلى الأذهان «صحراء الغذاء»، وهي عبارة تستخدم في وصف مناطق من العسير فيها على من لا يملك سيارة الحصول على طعام مغذٍ وصحي جراء ارتفاع كلفة النقل. والفقراء يميلون إلى البدانة في غياب فرص الحصول على غذاء صحي، فيعتمدون على المتاجر الصغيرة التي تعرض الوجبات السريعة والضارة. وهذه البدائل الغذائية (الوجبات السريعة والحبوب المغلفة بالسكر عوض الخضار الطازجة والحبوب الكاملة) قد تسد الرمق والجوع، ولكن لا بديل عن مياه الشفة.
المياه تلبي حاجة حيوية وتسد رمق العطش، لكن كلفة تأمينها باهظة. وبحسب دراسة أعدها موقع «يو أس آي توداي»، تضاعفت أسعار المياه، منذ العام 2000، مرتين في أكثر من 24 مدينة من 100 مدينة شملها البحث. وارتفع سعر مياه الشفة ثلاثة أضعاف في سان فرانسيسكو وأتلانتا وسان دييغو. والدافع إلى ارتفاع سعر مياه الشفة جلي في المدن الأوروبية، فسعر ألف ليتر منها في ميلانو يبلغ 0.40 يورو، و3.28 يورو في كوبنهاغن، و5.7 يورو في جنت. ويتزامن ارتفاع الأسعار مع تعاظم حجم المدن في المعمورة وزيادة عدد سكانها.
وليس تأمين مياه الشفة تحدياً بسيطاً. ففي دراسة نشرتها «جورنال واتر بوليسي»، لاحظ الباحثون أن 50 في المئة من المدن التي يفوق عدد سكانها 100 ألف نسمة تقع في مناطق تشح فيها المياه، لكن القرب من مصادر المياه أو البعد منها ليس العامل الوحيد في تفاقم مشكلات التحدي هذا. ولا يخفى أن ديترويت، على سبيل المثال، تشاطئ ضفة نهر. وخلصت الدراسة إلى أن دولاً كثيرة تسعى إلى توفير كميات اكبر من المياه من اجل مواكبة نمو عدد سكانها المضطرد. وفي أديلايد بأستراليا، يجر 90 في المئة من مياه الشفة من مناطق أخرى إليها. وسعت المدينة إلى تقليص اعتمادها على المياه المستوردة من طريق تحلية المياه المالحة. لكن عملية التحلية باهظة الثمن: وارتفع سعر المياه في أديلايد اكثر من 200 في المئة بين عامي 2002 و2013.
ويؤيد البنك الدولي مشاريع خصخصة إدارة المياه، لكن الطاعنين في إدارة القطاع الخاص لمرفق عام يقولون إن خصخصة مياه الشفة تفاقم الشرخ بين الأثرياء والفقراء. فيسع من يملك المال شراء مياه نظيفة وتفادي الأمراض. وفي رسالة مفتوحة إلى البنك الدولي، دان خبراء في شؤون المياه من عشرات الدول، مشاريع خصخصة المياه، ورأوا أن «شركات المياه لا تمول بنى تحتية مستدامة تنقل المياه الى من يحتاجها». وأهالي ديترويت لا يطالبون بحل أيديولوجي للمشكلة بل يدعون إلى حل عملي. فهم «لا يريدون مياهاً مجانية، بل يرغبون في خطة معقولة لتقسيط ثمنها والحؤول دون قطعها عنهم ودون تحول مدينتهم إلى مدينة أشبه ببلدان العالم الثالث»، يقول داني ماكغلاشينغ من «كتيبة مياه ديترويت».
( الغاردين 2014-10-25 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews