الرئاسية التونسية بين التكتيك والمقامرة والأمل

بدأت طلائع معركة الرئاسية التونسية تغزو الشارع بفعل اقتراب الموعد الانتخابي المقرر ليوم 23 نوفمبر، في دورته الأولى داخل تونس، وقبل ذلك بثلاثة أيّام في الخارج. وتمتلئ الساحتان السياسيّة والإعلاميّة التونسيتان اليوم بالإشاعات والمزايدات والمشاحنات التي تجعل من بناء صورة موضوعيّة حول الواقع عسيرا. ومع ذلك سنحاول أن نحيط بالعناصر الأساسيّة التي تركّب المشهد السياسي التونسي فيما يتّصل بحدث الانتخابات الرئاسيّة.
نلاحظ بدءا أنّ هناك “مترشحين” وهناك “مرشحين”. فالمترشّحون يرشّحون أنفسهم وهو شأن الشخصيّات الحقوقيّة والإعلاميّة والرأسماليّة التي تقدّمت بترشّحها للرئاسيّة على غرار الحقوقية القاضية الأستاذة كلثوم كنّو، والإعلامي زياد الهاني، ورجل المال والإعلام العربي نصرة وغيرهم. أمّا المرشّحون فإنّه قد وقع ترشيحهم من قبل أحزاب أو ائتلافات حزبيّة كما هو شأن حمّة الهمّامي مرشّح الجبهة الشعبيّة، ومحمد الحامدي مرشّح التحالف الديمقراطي، والباجي قايد السبسي مرشّح نداء تونس.

الميزة الأولى للرئاسيّة التونسيّة هي الإسهال في عدد المترشّحين لأسباب وعوامل كثيرة منها حالة التحرّر وممارسة الحقّ الدستوري في الترشّح للمناصب العليا للدولة، والاستجابة لنزعات شخصيّة نحو المجد المفاجئ، والالتزام بمقرّرات الهياكل الحزبيّة بالنسبة إلى مرشّحي الأحزاب، والوفاء لوصية الشهداء بالنسبة إلى مرشح الجبهة الشعبية حمة الهمّامي، الذي كان الشهيد شكري بلعيد قد اعتبره مرشّح الجبهة للرئاسيّة منذ الإعلان عن تأسيس الجبهة في أكتوبر 2012.

فيما يتعلّق بالمترشّحين والجهات التي تقف وراءهم والأطراف التي ترشّحهم، فإنّنا يمكن أن نجد أصنافا أربعة: مرشحا للقوى التقدمية الثورية، ومرشّحا أو أكثر لليبراليّين، ومرشّحا أو أكثر للنظام القديم، والبقيّة يمكن أن نضعهم تحت صنف مترشّحي الأهواء الشخصيّة باعتبار افتقارهم لجهات سياسيّة تتبنّى ترشّحهم أو تدعمهم أحزاب صغيرة أو متهالكة شأن أحزاب الترويكا. تتحرّك الرئاسيّة التونسيّة بين ثلاثة حدود هي؛ التكتيك والمقامرة والأمل.

ونعني بالتكتيك ما تمارسه حركة النهضة فيما يتعلّق بالرئاسيّة، إذ أعلن مجلس شورى الحركة في آخر اجتماع له أنّ الحركة لن تقدّم مرشّحا من أبنائها للرئاسيّة، وهو ما كنت قد استنتجتُه في مقال سابق على صفحات العرب حول تكتيك النهضة للحكم في تونس في المستقبل. وتفسير إحجام النهضة عن تقديم مرشّح للرئاسيّة متعدّد الجوانب. فالحركة لا تملك مرشّحا كاريزماتيّا يمكن أن يكون منافسا حقيقيّا على رهان الرئاسيّة.

وتكتيكها أنّها لا تريد أن تخرج خاسرة من معركة بحجم الرئاسيّة، بمعنى أنّها إذا لم تضمن الفوز فإنّها تفضّل ألاّ تشارك أصلا. لهذا لعبت النهضة ومازالت على ورقة المترشّح التوافقي حتى تبقي ظلالها ممدودة على الرئاسيّة وعلى الرئيس القادم، وهي لا تنفكّ تكرّر خطابا سجاليّا استهلاكيّا، مفاده أنّ الرئاسيّة لن تحسم إلاّ على يديها. كما أنّ تكتيك النهضة يقتضي أن تركّز جهودها كلّها على البرلمانيّة بعدما نجحت كتلتها في الدفع نحو صياغة نمط في الحكم يميل إلى نظام برلماني تكون أهمّ السلطات فيه في يد رئيس حكومة مدعوم من أغلبيّة برلمانيّة.

أمّا المقامرة فذات ثلاثة وجوه؛ الأوّل متّصل بالنظام القديم، الذي بدا متسرّعا على استعادة الحكم قبل المصارحة والمصالحة، والثاني بالمترشّحين المستقلّين والثالث بالمترشّح الليبرالي.

فيما يتّصل بالنظام القديم فإنّ التونسيّين يلاحظون جرأة في ممارسته الانتخابيّة. فإنّه لم يكتف بالعودة إلى المشهد بل إنّه نوّع من مرشّحيه للرئاسيّة. وهناك اليوم ثلاثة أسماء من وزراء بن علي تتداول للترشّح للرئاسيّة هم كمال مرجان وعبدالرحيم الزواري ومنذر الزنايدي. ولم يساعد النظام القديم على هذه الجرأة إلا الخدمة الكبيرة التي قدّمتها له حركة النهضة بإسقاطها فصل العزل السياسي من القانون الانتخابي.

الوجه الثاني من المقامرة يتعلّق بالمترشّحين المستقلّين فإن كان بعضهم من وجوه النظام القديم أو من الوجوه المستفزة للتونسيّين بسبب طروحاتهم المتطرّفة أو الرجعيّة، فإنّ بعض الوجوه الأخرى ذات حظوة لدى التونسيّين وكان يمكن أن تكون أفيد لو تمّ استغلالها في تزكية ترشيح مرشّح القوى التقدميّة مثلا. أمّا ترشّحها بشكل مستقلّ فإنّه سيشتّت أصوات الناخبين لصالح مرشّحين آخرين قد يكون فوز أحدهم كارثيّا على مستقبل تونس.

والوجه الثالث للمقامرة يمارسه جمع من المثقّفين الليبراليّين التونسيّين عبر رهانات سياسيّة لا تاريخيّة يغمرها التسطيح النظري، وتفتقر إلى العمق التأسيسي ولا تفسير لها غير العجز عن النضال المدني والاستسلام لفكرة المخلص الميتافيزيقيّة. ولكن المحير عندهم هو ضيق الأفق والانضباط الستاليني لفكرة الزعيم المخلّص.

ولقد دأب هؤلاء المثقّفون الليبراليّون على إحياء سلوك مؤذ للتونسيّين متوارث من نظام بن علي وحزبه هو أسلوب المناشدة. فلقد نشروا إلى حد الآن رسالتين أشبه ما تكونان بأسلوب المناشدة لا تفسير لهما سوى نوستالجيا الاستبداد المتمكّنة من المرسلين والمرسل إليهم على السواء. وممارستهم أسلوب المناشدة دليل كاف على انقطاعهم عن واقعهم، وعن ثورة شعبهم وعن طموحاته.

الأمل الوحيد الذي بقي للثوريّين وللفئات الشعبيّة المفقّرة وللجهات المحرومة وللحالمين بالشغل والمساواة والعدالة والكرامة، هو مرشّح القوى التي تسمّي نفسها ثوريّة، وأسمّيها تقدميّة إصلاحيّة بسبب تبنّيها لنضال الشارع والتصاقها بالجماهير والتفويض اللامحدود الذي تلقاه من قبلها للتكلّم باسمها، والنضال من أجل الدفاع عن مصالحها ومطالبها.

(المصدر: العرب 2014-09-10)