أمل الرئاسية التونسية ومخاطر الرجعية
يتزايد ارتفاع نسق الحملة الانتخابيّة لرئاسة الجمهوريّة التونسيّة يوما بعد يوم مع اقترابها من تاريخ الاقتراع المقرّر للأحد 23 نوفمبر 2014. والحقيقة أنّ التونسيّين يعيشون على إيقاع الديمقراطيّة كما لم يعرفوها عبر تاريخهم الحديث. ذلك أنّ الشعب التونسي يتقدّم كلّ الشعوب في القدرة على افتكاك مستقبله من كلّ المستبدّين أو من يحاولون التدخّل في شؤونه.
الوجه الأكبر للديمقراطيّة هو الانتخابات الحرّة النزيهة التي ينتخب فيها الشعب ممثّليه وحكّامه بكلّ حريّة محتكما إلى ضميره ولا شيء سواه. وقد نجح التونسيّون في الاختبار الأوّل في انتخابات 26 أكتوبر التشريعيّة بعد أن داسوا على جراحهم وأوجاعهم التي خلّفها الإرهاب الغادر الذي غرس وأثمر برعاية كاملة من الأجنحة الإخوانيّة الرسميّة للإسلام السياسي.
الشعب التونسي الذي يصرّ على افتكاك مصيره بيده تأبى قوى الردّة الرجعيّة وكمبرادورات المال السياسي الفاسد أن تتركه وشأنه، بل إنّ تنغيصات كثيرة تتدخّل بين ظفره ولحمه. قوى الردّة التي تتعاضد ضدّ إرادة التونسيّين اليوم ذات وجهين؛ الردّة الأيديولوجيّة الرجعيّة التي تعادي المدنيّة والديمقراطيّة والحداثة والتقدّم بشكل صريح وتمارس العنف بكلّ أشكاله لإخافة التونسيّين وإجبارهم على التقهقر الحضاري، والردّة التاريخيّة التي تزيّن الماضي القريب الذي ثار على استبداده الشعب التونسي.
وللأسف الشديد، وجدت قوى الردّة من المترشّحين للرئاسة من فقد رجاحته ومسؤوليّته الوطنيّة ليفتح لها باب العودة إلى المشهد التونسي بعد أن كان الشعب قد قاومها سلميّا بشراسة بقيادة قواه المدنيّة والتقدميّة في مناسبات تاريخيّة عظيمة في التاريخ الحديث لتونس مثل أحداث ذكرى عيد الشهداء 9 أبريل 2012 ومسيرة نساء تونس الضخمة في 13 أغسطس 2013 واعتصام الرحيل بباردو وغيرها.
في هذه المحطّات النضاليّة الضخمة التي خاضها الشعب التونسي دفاعا عن حاضره ومستقبله دفع الغالي والنفيس ولم يبخل على وطنه بخيرة من فيه، فدفع الشهداء ثمنا لتصدّيه العاتي لقوى الجذب إلى الخلف التي فشلت في أسر مستقبله. طيلة السنوات الثلاث التي أعقبت ثورة الحريّة في 14 يناير 2011، وجد الشعب التونسي وحده يواجه مصيره أعزل إلاّ من إصراره على الحريّة.
إنّ تخلّي الدولة التونسيّة عن شعبها يتمثل أساسا في الإحجام عن المحاسبة والعدالة ممّا أضعفها وأضعفه. فتهافتت عليها وعليه السباع وبنات آوى. وهان أمر تونس على كلّ من يأنس في نفسه القدرة أو الرغبة على الإساءة والإفساد. وهذا ما بسط الطريق أمام المال السياسي الفاسد ليدير أصابعه الآثمة في تونس بتواطؤ وتغاض بل وتآمر من بعض المكوّنات السياسيّة الفاعلة في تونس. تحرّك هذا المال العفن مستغلاّ حالة الفقر الاجتماعي والركود الاقتصادي المقصود وأثّر في نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 وانتخابات 26 أكتوبر 2014. ونجح في تغليب طرف على آخر، بل إنّه صنع فقاقيع حزبيّة قادمة من المجهول تموقعت في الساحة السياسيّة بصلف ظاهر.
يعرف التونسيّون بوضوح كامل أنّه لا فرق بين الرجعيّة الأيديولوجيّة والرجعيّة التاريخيّة رغم اختلاف الشعارات والمظاهر، فكلتاهما توظّفان أدوات وأساليب غير نزيهة ولا مدنيّة ولا أخلاقيّة في المنافسة الديمقراطيّة على الحكم. كلتاهما توظّفان العنف والشعبويّة والرشوة والمال الفاسد. وكلتاهما تتنافسان على ابتزاز مراكز النفوذ القديمة التي خلّفها بن علي وراءه. بل إنّهما لا تتورّعان عن استعمال ورقات خطيرة حارقة مثل ورقة الجهويّة المقيتة.
من ذلك أنّ أحد المترشّحين للرئاسة يثير نعرات جهويّة عند أهل الجنوب التونسي ويستدرّ أصواتهم، وآخر يحاول الاستيلاء على ولاية الثورة ولاية سيدي بوزيد بشعارات شعبويّة رغم أنّه لا يعيش فيها بل لا يعيش في تونس أصلا، وثالث يحتكر تاريخ الزعيم بورقيبة وصورته وتركته رغم أنّه تخلّى عنه لمّا آذاه بن علي ولم يزره طيلة سنوات الإقامة الجبريّة ولم يدافع عنه ولم يحضر جنازته الكئيبة.
إنّ من يمثّلون الرجعتيّن من المترشّحين لحكم تونس سرعان ما يفقدون اتّزانهم الذي لا ينجحون في تجميله أمام الشعب التونسي. فأحدهم يستولي على صفة مترشّح آخر وشعاره مثل شعار “ولد الشعب” الذي أطلقه الشعب التونسي على حمّه الهمّامي، وقد أطلقه مترشّح آخر على نفسه أمام اندهاش الحاضرين أمامه. والثاني يهدّد بالتعرّي أمام الجماهير في اجتماع شعبي عام ليردّ على المشكّكين في صحّته وقدرته على مسؤوليّة كبيرة بحجم رئاسة الجمهوريّة. والثالث لا يتوقّف عن ترديد وعود وإغراءات أنجحت حزبه في 23 أكتوبر 2011 وقصمت ظهره في 26 أكتوبر مثل المنح المتهاطلة والصحّة المجانيّة والنقل المجاني ونقل عاصمة تونس من مكانها.
ومع ذلك فأمل التونسيّين كبير وحماسهم لم يفتر وحلمهم في استئناف مسيرتهم نحو المستقبل الديمقراطي العادل لم يخب ولم يضعف. فالشعب التونسي يثق في نفسه وفي أبنائه ليقدّموا له منهم مرشّحا يبزّ الرجعيّة بكلّ وجوهها ويتصدّى لها ويصحّح الماضي المنتكس ويضع قطار الثورة على سكّة الحريّة والمساواة والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة.
الرئاسيّة ضمانة تونس الحقيقيّة في مستقبل أفضل، والمترشّحون إليها كثر ولكنّ الفائز سيكون واحدا فقط. ولعلّه يكون من أبناء الثورة وأولاد الشعب، ولا خيار، حتى تستأنف تونس حلمها.
(المصدر: العرب 2014-11-18)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews