يساريو بريطانيا ينتظرون ثورة لن تأتي أبدا

بقدر ما كانت الثمانينيات مروّعة لليساريين في بريطانيا، ينبغي لهم الآن الأخذ في الحسبان أن هذا العقد ربما يكون أسوأ. حتى مع قيام مارجريت تاتشر بتحطيم معتقداتهم التقليدية والتغلب عليها في استطلاعات الرأي، فقد خاضوا معركة إضراب عمّال المناجم، وأعمال الشغب على الضريبة العامة وغيرها من الاضطرابات العنيفة جعلتها غير مستقرة وأظهرت أن حدود الدولة لا يمكن أن تعود إلى سابق عهدها إلا لشيء قريب من سفك الدماء. المذكرات من المطّلعين تذكر أن ما يسمى الحكومة المستبدّة تصف أجواء من الحصار الدائم والضعف.

مضى جيل، والأمر سهل جدا بالنسبة لليمنيين. لمدة أربعة أعوام بريطانيا تخضع للانكماش المالي الأكثر استدامة منذ الحرب العالمية الثانية. القطاع العام ذاق طعم فقدان الوظائف والتحفظ على زيادة الرواتب. وستستمر التخفيضات التي بالفعل هي أكبر من تلك التي سعت إليها تاتشر، لفترة أطول مما تم التعهد به. في عام 2010 توقع اليساريون ما يشبه التمرد الوطني ضد كل هذا، في حين أن حزب المحافظين الحاكم أعد نفسه لحقبة أخرى من الاحتجاجات والاضطرابات المدنية. لكن ذلك لم يتحقق. فمراوغة رد الفعل الشعبي ضد التقشف هي قصة هذه البرلمان.

الشهر الماضي في لندن، خرج عشرات الآلاف في مسيرة ضد التخفيضات برعاية منظمة تدعو نفسها بغرور "مجلس الشعب". لكن معظم "الشعب" كان غافلا ولجأ مجلسه إلى التذمر من عدم مبالاة وسائل الإعلام. وسيقوم عمال القطاع العام بتنظيم إضراب وطني لكنه، مثل جميع الاشتباكات الأخيرة في نضال العمال، لن يُعلن سوى عن عجز النقابات عن تعطيل الحياة الوطنية أو إزعاج الحكومة. في عهد تاتشر كانت الإضرابات بمثابة أحداث، لكنها الآن شكليات غريبة.

مكافحة التقشف ليست مجرد علاقة غير منظمة على أرض الواقع، فقد تلاشت تقريبا من حيث اعتبارها اقتراح سياسي. يهدف حزب المحافظين إلى القضاء تماما على العجز بحلول عام 2018. وحزب العمل سيمنحه عامين إضافيين. هذه هي حصيلة الفرق بين الحزبين الرئيسين. عندما شرحوا رغبتهم في الديموقراطية الاجتماعية الأوروبية، أولئك المقربون لزعيم حزب المعارضة، إيد ميليباند، يحبّون قول إن هناك "منوعات من الرأسمالية". الانتخابات العامة العام المقبل ستكون خيارا بين منوعات من التقشف. بما أن معظم التخفيضات وعمليات رفع الضرائب الواضحة قد تمت، فإن خطط كلا الحزبين توحي بكفاءات شرسة: ربما إبطال لوزارات بأكملها، أو مواصلة تجميد زيادات الرواتب واستحقاقات الرعاية الاجتماعية. ويقول بعضهم إن الشعب سيصل إلى نقطته الحاسمة في أي وقت، لكنهم كانوا يقولون ذلك منذ أربعة أعوام. اليساريون قريبون بشكل خطير من تكرار دورهم في القرن التاسع عشر، وهو انتظار ثورة لن تأتي أبدا.

بدأ حزب العمال هذا البرلمان مع تطلعات لجذب القاعدة المركزية للسياسة نحو اليسار. والشعب الذي يرفض التقشف كرفض جسم الإنسان لأي جسم آخر غريب، سيهتف لهم. بحلول عام 2012 كان ذلك الأمل يبدو خياليا. لكن الآن أنت تحتاج إلى عمل بطولي في الذاكرة حتى تتذكر ذلك. من الصعب تحديد ما سيُظهره حزب المعارضة، على الأساس الفكري المكتسب، لمدة أربعة أعوام من العمل الجاد غير بعض الحملات الأنيقة ضد سياسات معينة - مثلا، "ضريبة غرفة النوم" - التي لم تتصاعد لتصبح حركة عامة ضد التقشف.

لا شيء من هذا يشير إلى أن التخفيضات شعبية، بل هي غير شعبية مثلما أن أمصال الإنفلونزا غير شعبية. الشعب لا ينتفض ضد أمور يغلب على ظنه أنه لا يمكن تجنبها. عند نقطة معينة غير واضحة حول مطلع العقد، استنتجوا أن سنوات المِنح الحكومية قد انتهت وأن نوعا من تصفية الحسابات قادم إليهم. هذه الأجواء من التنازل على مضض كانت منيعة ضد شيء تقريبا كان قد حدث منذ ذلك الحين. الركود الاقتصادي والانتعاش اللاحق؛ حالة الحضيض من جورج أوزبورن المرتكب الحي للأخطاء الشاملة وعظمته الحالية كأمير بين وزراء المالية؛ المناقشات الحادة بين الاقتصاديين المؤمنين بمذهب كينز في الاقتصاد وبين نوع أكثر تشددا – ولم يكن لأي منهم تأثير كبير على المواقف تجاه التقشف التي هدأ معظمها في عام 2010.

الدرس المستفاد من هذا مثير للقلق بالنسبة لليساريين أكثر مما يبدو أنه مفهوم لديهم. وهو أن السياسيين بإمكانهم تخفيض الإنفاق بدون انهيار كل شيء. بإمكانهم البقاء قادرين على المنافسة انتخابيا والبلاد يمكن أن تبقى عاملة. لا تحتاج الحكومات إلى أن يقودها رجال محبوبون لتحقيق ذلك. كما لا تحتاج إلى نمو اقتصادي متقطع كهمهمة خلفية مُهدئة لأفعالها القاسية. على الأغلب، تحتاج إلى الإبقاء على معدل البطالة تحت السيطرة. إن غياب طوابير الإعانة التي تمتد على مدى البصر أمر تعزوه وزارة المالية لصبر بريطانيا المثير للدهشة مع الضائقة المالية.

إذا استمر ذلك الصبر، فسيكون ديفيد كاميرون قد غيّر الحوافز التي تواجه خليفته. حتى الآن، كانت النقاط المرجعية التاريخية التي تُرهق أي زعيم يحاول إصلاح البلاد هي إدوارد هيث الذي قامت النقابات بتوديعه في السبعينيات، وتاتشر التي كافحت لمدة عقد من الزمن للسيطرة على الاضطرابات الوطنية. من الآن فصاعدا النقاط المرجعية ستتضمن كاميرون، وهو رجل قام بتخفيض التكاليف على حساب فقدان الشعبية المزمن لكن غير الحاد. المخلوق الضخم للكومنويلث وأصدقاؤه لم يسبق له قط أن ظهر بمثل هذا الضعف وقلة الحيلة.

( فايننشال تايمز 14/7/2014 )