فشل المالكي في صون وحدة العراق ينهي حلم الإمبراطورية الإيرانية!
كان توقيت الهجوم مثالياً على الصعيدين الإقليمي والدولي، كما وصفه خبراء عسكريون. ولقد اختير موعد الاجتياح بعد سبعة أيام من المناوشات داخل مدينة الموصل، التي انطلق منها أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل من تنظيم «داعش»، إضافة إلى مجموعات تضم ضباطاً سابقين ومعارضين ينتمون إلى فصائل إسلامية سنيّة.
وربما حدد مجلس القيادة توقيت الحملة العسكرية على ضوء الأحداث والتطورات التي تشغل الرأي العام العالمي. وقد استغل مهرجانات البرازيل للمونديال كي يباشر هجومه الواسع على جبهة عريضة دشنها باحتلال مقر الشرطة الاتحادية في الموصل. كما استغل أيضاً انشغال الشعوب العربية بمتابعة أخبار فوز بشّار الأسد برئاسة سورية... وفوز عبدالفتاح السيسي برئاسة مصر. وفي غمرة تلك الأجواء الساخنة، كان اهتمام الرئيسَيْن باراك أوباما وفلاديمير بوتين موزعاً بين أزمة أوكرانيا وتهديد الصين لليابان.
المسافات الطويلة التي قطعتها قوات الفصائل المسلحة بسرعة مذهلة كانت مصدر تساؤلات المراسلين والمصورين الذين رافقوا تلك الحملة. ثم تبيَّن لاحقاً أن هناك تواطؤاً خفياً بين «داعش» وكبار الضباط من الذين اعتادوا على قبول الرشوى بحجة أن الدولة تجاهلت مطالبهم وأهملت إنجازاتهم. وهذا ما يفسر استسلام الفرق العسكرية النظامية المرابضة حول مطار الموصل وعند السجن المركزي والدوائر الحكومية.
وفي تعليقه على هذه الأحداث المُستَهجَنة، قال وزير خارجية العراق هوشيار زيباري إن انهيار القوات المسلحة العراقية يذكره بانهيار قوات صدام حسين أثناء دخول القوات الأميركية. يومها خلع القادة الزي العسكري وارتدوا الزي المدني، الأمر الذي سهّل لهم ترك السلاح والعتاد.
وعندما هدد رئيس الوزراء نوري المالكي بإحالة المسؤولين في محافظة ديالى ومدينة الموصل إلى المحاكمة، تصدى له محافظ الموصل أثيل النجيفي محذراً، وقائلاً: إن المواطنين في ثاني أكبر مدن العراق كانوا يلجأون إلى المنقذ عندما تمارس قوات الأمن الظلم عليهم. وأعرب المحافظ عن أسفه لأن «داعش» احتضن السكان، وأمن لهم الحماية والوقاية عبر لجان تشكلت بالتنسيق مع الفصائل المسلحة.
وحول هذه الظاهرة كتب المحلل السياسي جون ديريك يقول: على رغم شراسة العنف الذي تميز به «داعش» ضد خصومه السياسيين والعقائديين، إلا أنه أجرى مصالحات سرية معهم في سبيل إنجاح حملته العسكرية. لذلك، جمع تحت مظلته ضباطاً من حزب «البعث»، وقادة من «جيش المجاهدين» الذين حاربوا القوات الأميركية، إضافة إلى زعماء العشائر ورجال الطريقة النقشبندية التي يعتنقها عزت إبراهيم الدوري، النائب السابق لصدام حسين.
ويتردد في بغداد أن عزت الدوري (وهو من منطقة الدور في محافظة صلاح الدين) يعيش متخفياً قرب مدينة تكريت. ومع أنه متوقف عن القيام بأي دور حزبي، إلا أنه ناشط عبر أنصاره للإفراج عن صديقه المعتقل طارق عزيز، وزير الخارجية السابق لصدام حسين.
وبين المفاجآت التي رافقت أحداث العراق كانت رسالة شكر وامتنان وجهتها رغد صدام حسين إلى «عمّها» عزت الدوري ومقاتلي والدها لأنهم ساهموا في طرد قوات نوري المالكي من المدن العراقية. وبما أن المالكي هو الذي وقّع على قرار إعدام صدام، فإن رغد وشقيقتها رنا اللتان تعيشان في الأردن، تنتظران الرجوع إلى تكريت بعد إزاحة رئيس الوزراء واستبداله بشخص آخر.
وبانتظار ما ستُسفر عنه مشكلة المالكي، ركّزت وسائل الإعلام في كل مكان على اتهامه بالتقاعس والفساد والديكتاتورية، مطالبة البرلمان بضرورة إقالته من موقع جعلَ منه صدام حسين آخر، خصوصاً بعدما أثبتت الأحداث الأخيرة عجز الجيش عن حماية المواطنين والدفاع عن ممتلكاتهم. علماً أنه يتألف من 800 ألف جندي نظامي، إضافة إلى أربعمئة ألف آخرين، يشكلون قوات الأمن وشرطة الاستخبارات وحرس الحدود والقوات الخاصة المعنية بحماية الديبلوماسيين والسياسيين والمنشآت الرسمية.
وقد أعلنت بغداد، قبل سنة تقريباً، أن كلفة تسليح تلك القوات بأعتدة هجومية ودفاعية تعدت مبلغ العشرين بليون دولار.
واعترف شهود عيان أن القوات النظامية المحصنة بالدبابات والمجنزرات لم تلبث أن فرّت من المناطق السنّية تاركة أسلحتها غنيمة لفصائل «داعش» وجنود البيشمركة الكردية.
كل هذه الأمور تعزز الاعتقاد بأن إزاحة المالكي (64 سنة)، بعد انقضاء ثماني سنوات على حكم تعسفي مفسد، يمكن أن تكون الحل العملي لإنهاء أخطر أزمة يمر بها العراق منذ عام 2003. وهي أزمة مرشحة للتدويل إذا شعرت الولايات المتحدة بأن مصالحها مهددة، بخلاف ما نصّت عليه اتفاقية الانسحاب.
وربما استغل المالكي تقاعس أوباما عن تأمين حبل النجاة له كي يتبرأ من التزاماته حيال واشنطن التي رفضت إرسال قوات برية إلى العراق، أو القيام بغارات جوية مساندة.
وفي رأي المحللين أن هجوم «داعش» وأنصاره أسقط حكومة التوافق الأميركي - الإيراني الممثلة برئيس الوزراء نوري المالكي، الطامح إلى الاستئثار بدورة ثالثة. ويبدو أن أوباما قد خذله، لأنه قرر الابتعاد عن أوحال بغداد، تاركاً لإيران وحدها معالجة أخطر أزمة تواجهها إمبراطورية الشيعة.
وتفادياً لاندلاع حرب أهلية، أرسلت طهران إلى بغداد قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، بهدف استنباط حل شبيه بالحل الذي استنبطه سابقاً لإنقاذ نظام بشّار الأسد. ومن المؤكد أنه سيكرر زياراته العاصمة العراقية، لأن «داعش» لم يترك له خياراً مقبولاً كالخيار الذي تركه «الائتلاف الوطني» المعارض في سورية. وهو يدرك جيداً أن الوقت لا يعمل لمصلحة حليفه، ولا لمصلحة دولته، خصوصاً بعدما رسمت المعارك خطوط الكانتونات الثلاثة بطريقة جغرافية ومذهبية. ففي الشمال - الشرقي تمددت دولة كردستان بضم كركوك. بينما انتشر السنّة في مدن الشمال وقراه. أما الشيعة فقد زادوا من هيمنتهم على مناطق الجنوب.
وقد تكون الحرب ضد «داعش»هي الحل الأول الذي يتراءى لقاسم سليماني، على اعتبار أن الانتصار العسكري يحقق عودة العراق إلى حضن الإمبراطورية، ويترك لإيران جسرها الطبيعي إلى سورية الأسد ولبنان «حزب الله».
ولكن، دون هذه المغامرة محاذير كثيرة، بينها احتمال دخول العراق في نفق البلقنة عبر حرب إقليمية - دولية تجذب إلى أتونها جماعات «القاعدة» إضافة إلى مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وهذا يعني نقل المعارك إلى حدود إيران، بحيث تؤجل الدولة مشاريعها الحيوية والأمنية، وتُقحِم جيشها و «حرسها الثوري» في معارك العراق. وهذا ما فعله صدام حسين الذي جمَّد بحربه اندفاع الثورة الخمينية مدة تزيد على ثماني سنوات، ذهب ضحيتها أكثر من مليون قتيل، من الفريقين.
وتحاشياً للسقوط في هذا الخيار المظلم، قرر المندوب السامي الإيراني قاسم سليماني معالجة مشكلة رئيس الوزراء نوري المالكي، معتبراً أن إزاحته حالياً تشكل انتصاراً لـ «داعش»، وتفتح شهية المرشحين لخلافته.
وتردد في هذا السياق بعض الأسماء المعروفة مثل: عادل عبد المهدي الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية. كذلك، طُرِحَ اسم باقر جبر الزبيدي الذي نجح في منصب وزير الداخلية أثناء حكومة إبراهيم الجعفري.
وعندما تعهدت إيران بدعم حكومة المالكي، وأعلن الرئيس حسن روحاني تعهده بمحاربة الإرهاب في العراق، أطل فجأة أحمد الجلبي ليدلي بدلوه ويقول: «إن الانسحابات التي حصلت في الموصل وغيرها لا تقع مسؤوليتها على عاتق الضباط فقط، وإنما هي نتيجة سياسات خاطئة وقيادة فاشلة.» وكان بهذا الكلام يغمز من قناة المالكي الذي يعتبره الجلبي محتكراً الحكم، ومعطلاً أدوار منافسيه. والدليل أنه يحتفظ بمنصب رئاسة الحكومة، إضافة إلى وزارتين سياديتين هما وزارة الدفاع ووزارة الداخلية. وبما أنه، من الناحية الدستورية، يُعتَبَر القائد العام للقوات المسلحة، فإن فشل قوات الأمن المكوّنة من مليون ومئتي ألف جندي وشرطي يجب أن يعرّضه للتحقيق والمحاكمة.
وخوفاً من مواجهة هذا المأزق المسلكي الغامض، طلب المالكي من المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني أن يحضّ أتباعه على حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم في مواجهة تقدّم المتشددين السنّة. وقد تُليَت رسالته في صلاة الجمعة في مدينة كربلاء، بواسطة الشيخ المهدي الكربلائي، الأمر الذي اعتبره المراقبون تحريضاً على الفتنة المذهبية لإلهاء الناس عن المطالبة بمحاكمة المسؤول الأول.
وبين الانتقادات العنيفة التي وُجّهت إلى المالكي كانت مقالات المعلق والكاتب ومستشار أوباما للشؤون الإسلامية، فريد زكريا. وفيها يقول: إن رئيس وزراء العراق يتصرف كالبلطجية، ويستبعد السنّة من السلطة، ويستخدم الجيش والميليشيات لإرهاب منافسيه. كذلك رفض بناء تحالف يشترك فيه السنّة، وأمر بتجميد رواتب «الصحوات» والعشائر السنّيّة.
وفي بيان لمجلس الوزراء السعودي حمّلت الرياض مسؤولية ما حدث في العراق «إلى السياسة الطائفية والإقصائية التي مارسها المالكي طوال ثماني سنوات». وحضّ البيان على ضرورة الإسراع في تشكيل حكومة وفاق وطني تضم مختلف أطياف المجتمع العراقي. كذلك، رفض التدخل الخارجي في شؤون العراق الداخلية. وهو موقف خليجي يعبِّر عن رفض هذه الدول زيادة حدة التوتر الأمني وتشجيع التطرف.
بقي أن نذكر أن المفاوض الأميركي طلب من المالكي السماح ببقاء قوة رمزية قد تساعد على حماية أضخم سفارة خارج الولايات المتحدة. وأبلغه رئيس الوزراء أنه لا يستطيع مخالفة أوامر طهران التي أوصته بضرورة انسحاب كل القوات الأميركية من أرض العراق. ولما استوضحه المفاوض الأميركي رأيه الشخصي، أجاب متبرِّماً: ولكنني مدين لإيران باستضافة طويلة عندما أسسنا «حزب الدعوة» كنت أنا فيه نائباً للرئيس إبراهيم الجعفري. لهذا السبب، وسواه، تراني ملزماً بتنفيذ سياسة إيران!
والطريف في الأمر، أن الحكومة الإيرانية طلبت من الإدارة الأميركية مساعدتها عسكرياً من أجل دحر إرهابيي «داعش»!
(المصدر: الحياة 2014-06-21)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews