تصنيف منخفض .. أمستردام عاصمة عالمية من الفئة الثانية
كان ذلك صباح يوم من الأيام الساكنة التي تجعل أمستردام مريحة جداً. أحد أصدقائي وأنا كنّا جالسين في مقهى أنيق بجانب قناة، مسلحين بقهوة لذيذة، نتصفح صحيفة بدون هدف. صديقي تاجر أعمال فنية، وحتماً تاجر آخر مثله كان يتجول في المنطقة، وحتماً يعرفان بعضهما بعضاً ـ أمستردام قرية بوهيمية راقية.
لكن عندما حصل التاجر الآخر على قهوته، وتم استئناف الحديث الفارغ، تبيّن تدريجياً أن شيئا ما يتغير: أمستردام، مركز سوق الأعمال الفنية منذ عام 1600، تتخلف الآن عن غيرها من المدن. أفضل الفنانين الهولنديين الآن يعرضون أعمالهم الفنية في صالات عرض أجنبية، غالباً في نيويورك ولندن. وكبار هواة الأعمال الفنية في هولندا يشترون من نيويورك، أو لندن، أو من معارض فن أجنبية. يتمنى التجّار الهولنديون لو أن بإمكانهم بيع سلعهم هناك. تقريباً جميع الأعمال الفنية التي يتم تداولها في أمستردام الآن قليلة الشأن.
يوجد شيء مماثل يحصل في مجالات ترواح من الخدمات المصرفية إلى السياسة: أمستردام تنخفض للدرجة العالمية الثانية. كذلك عديد من العواصم الوطنية الأخرى. أكثر مواطنيها طموحاً يغادرون إلى عدد قليل من "العواصم العالمية"، غالباً إلى نيويورك ولندن وهونج كونج.
تسأل ساسكيا ساسين، من جامعة كولمبيا، وهي مفكّرة بارزة في مجال المدن: "هل نشهد ظهور مجموعة صغيرة من "الأماكن العظيمة" المختلفة فعلاً، التي أصبحت ركائز ضرورية بالنسبة لأي شركة أو فرد أو مشروع"؟
مثل أي مدينة كبيرة، أمستردام موجودة في اثنين من التسلسلات الهرمية: وطنية ودولية. داخل هولندا، هي مدينة محلقة. وكما أخبرتني ساسين "كسبت أمستردام قوة مقارنة مع ما كانت عليه قبل 30 عاماً". في الثمانينيات، عندما كنت أعيش في هولندا، كانت أمستردام للهيبيين، ومدمني المخدرات، والعاهرات، والبوهيميين المفلسين، والطلاب، ومواطنين من الطبقة العاملة البيضاء، ومثليين هاربين من بلدات هولندية صغيرة شددت الخناق عليهم. كان بإمكانك شراء منزل يعود إلى القرن السابع عشر، مطل على إحدى القنوات، مقابل قليل من المال، إذا تمكنت من إقناع الساكنين فيه بغير حق على الرحيل.
لكن في التسعينيات، انطلق اقتصاد المعرفة. مثل عديد من مدن العواصم العالمية، استفادت أمستردام من ذلك. قامت النخبة الهولندية بشراء منازل على القنوات. واتخذت الشرطة إجراءات صارمة بحق المدمنين الذين يبيعون الدراجات المسروقة مقابل بضع قطع نقدية. كذلك تقلصت منطقة المواخير. وعادت أسعار المنازل مرة أخرى إلى الارتفاع بعد أن تراجعت قليلاً خلال الأزمة، في الوقت الذي يكافح فيه أصحاب المنازل الهولنديون في مناطق أخرى. وبحسب تعريف ساسين، أمستردام اليوم واحدة من نحو 100 "مدينة عالمية".
لكن كما تعترف، ربما تكون هناك مدن ذات فئة جديدة أعلى تظهر الآن: العواصم العالمية. لقد نهضت أمستردام، لكن نيويورك ولندن وهونج كونج نهضت بشكل أسرع. النخبة الهولندية تنتقل إلى أمستردام، لكن لم يعُد عديد من المواطنين الهولنديين الطموحين يرغبون في الانضمام للنخبة الهولندية. إنهم يرغبون في الانضمام للنخبة العالمية. وذلك غالباً ما يتطلب الانتقال إلى عاصمة عالمية.
يمكنك رؤية هذا التحوّل في عديد من المهن. لندن مليئة بالمصرفيين الهولنديين الذين يكسبون أكثر مما يكسب أصدقاؤهم في أمستردام أبداً. الأكاديميون الهولنديون، وحتى الصحافيين يبحثون بشكل متزايد عن وظائف في الخارج. والسياسيون الهولنديون أيضاً يصابون بخيبة أمل من المشهد الوطني المتقلّص: قبل الانتخابات الأوروبية، ملصقات حملة الأحزاب على نوافذ أمستردام تتحسّر على قوة بروكسل. أصبحت الفجوة العالمية الوطنية صارخة جداً الآن بحيث إن عديدا من أطفال نخبة أمستردام يقومون بالنقلة النوعية في فترة مراهقتهم: يدرسون إما في بريطانيا، وإما باللغة الإنجليزية في جامعة هولندية. فلا يمكنك تمييز النخبة العالمية المتحدّثة بالإنجليزية الهولندية.
بطبيعة الحال، لطالما كانت البلدان الصغيرة تعمل على تصدير الأشخاص الطموحين. قبل أعوام أخبرني صديق نيوزيلندي، يعمل في وظيفة عادية في لندن، أن رئيسة الوزراء المقبلة في بلاده طلبت منه أن يكون مساعدها. قلت "هذا رائع"، لكنه قال "لا، لن لا أريد". وأوضح أن العمل لمصلحة رئيسة وزراء نيوزيلندا يشبه إلى حد العمل في مجلس المدينة الريفي.
يملك الهولنديون، أيضاً، تقليد السعي للعمل في ميادين أكبر. مثلا، الجاسوسان، ماتا هاري وجورج بليك، جعلا نفسيهما من الجواسيس الدوليّين تماماً، بحيث إن قليلين كانوا يعلمون أنهما هولنديان. أصبح بليك جاسوساً بريطانياً، ثم خائناً سوفياتياً - مع أنه عندما أجريت معه مقابلة في موسكو بعد 70 عاماً من مغادرته هولندا، اختار أن يجري كامل الحوار باللغة الهولندية.
مع ذلك تسارع تصدير فئة النخبة إلى العواصم العالمية منذ التسعينيات. وكما تقول ساسين: "الأشخاص، سواء كانوا في دبي أو شنغهاي، يحتاجون لقضاء بعض الوقت في مكان مثل لندن أو نيويورك". وتضيف أنه "غالباً ما يذهب المهاجرون النخبة إلى عاصمة عالمية لبيع معرفة وطنهم. مثلا، تقوم الشركات العالمية بتعيين موظفين هنود يفهمون كيفية القيام بأعمال تجارية في الهند. بعض هؤلاء الأشخاص يعودون في النهاية إلى وطنهم مرة أخرى. وآخرون يتحولون إلى نفوس عالمية".
لكن الهجرة الجماعية تأخذ أشكالاً مختلفة في بلدان مختلفة. في إسبانيا عديد من المهاجرين الشباب الموهوبين يأتون من عائلات عادية بدون وجود علاقات لدخول النخبة الإسبانية. وتصدر فرنسا الأشخاص الطموحين الذين لا يستطيعون الانضمام للنخبة الفرنسية لأنهم لم يذهبوا إلى كلية راقية. وهذا يؤدي إلى إعادة تنظيم جغرافي لفئة النخبة. ربما تكون أمستردام المستقبل بالنسبة لمدن مثل باريس ومدريد مكانا منعزلا يسكنه عدد متزايد من النخبة الوطنية الضعيفة ـ مكانا ممتعا لصباحات ساكنة من القهوة وقراءة الصحف.
( واشنطن بوست 8/6/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews