التعافي الاقتصادي العالمي لم ينعكس على معدلات البطالة المرتفعة
في إحدى ليالي الشتاء الباردة وبحسب إحدى الصحف الألمانية فإن طفلا صغيرا وقف أمام والدته وهو يرتعش من قسوة البرد وسألها ببراءة: لماذا لا تدفئين المنزل يا أمي؟ قالت الأم: لأنه لا يوجد فحم بالمنزل يا ولدي، فسألها الطفل ولماذا لا يوجد فحم بالمنزل؟ أجابت الأم: لأن والدك متعطل عن العمل، وعاد الابن يسألها: لماذا يتعطل أبي عن العمل؟ قالت الأم: لأنه يوجد فحم كثير بالأسواق يا ولدي وبالتالي لا يمكن أن يعود الأب إلى العمل إلا إذا تم تصريف مخزون الفحم الراكد في سوق السلع فكساد الأسواق ينعكس بشكل مباشر في كساد سوق العمل وكذلك سوق المال. مشهد آخر ولكنه هذه المرة من الولايات المتحدة حيث يصف المشهد طابورا رباعي الصفوف من العاطلين عن العمل يبدو أنه بطول نحو 100م على الأقل من الشارع الذي يوجد به أحد المصانع بمدينة نيويورك كلهم يتنافسون لشغل خمسة وظائف فقط. قد لا تستغرب عزيزي القارئ أن الحادثتين وقعتا في الفترة ما بين 2007 إلى تاريخ نشر هذا المقال ولكنهما في الواقع حدثتا عند استفحال أزمة الكساد العالمي خلال السنوات من 1929 – 1933 حيث وصلت إلى حد توقف شامل للنشاط الاقتصادي في كافة الأسواق (أسواق العمل)، (أسواق السلع والخدمات)، و(أسواق المال حيث لا توجد أية حوافز للتوسع الاستثماري كما أنه لا توجد أية ممارسات لسلوكيات ادخارية حيث لا دخل لدى معظم الأفراد بسبب تعطلهم عن العمل أصلاً). وبعد نحو مائتي عام من قيام الثورة الصناعية في أوروبا ونحو ثلاثمائة عام من تأسيس وتطبيق النظم الرأسمالية بأطوارها التجارية والصناعية والنظام الرأسمالي الحر والتي غيرت معالمه الأساسية أزمة الكساد العالمي. منذ ذلك التاريخ تم رصد ما أصبح يعرف حاليا بالبطالة كما أصبح أعتى وأكثر الأمراض الاقتصادية فتكا فهل أعاد التاريخ نفسه أم أن الداء الذي عرفته الاقتصادات المتطورة آن ذاك واستطاعت الحد منه ليصبح فيما بعد مرضا مزمنا في الاقتصادات الناشئة أعاد الكرة ليتساوى فيه الناشئ والمتقدم على حد السواء؟
الأرقام المذهلة التي يتم تداولها بخصوص أعداد العاطلين عن العمل في كل من الولايات المتحدة وأوروبا إن دلت على شيء فإنما تدل على أحد أمرين فإما أن يكون ارتفاع معدلات النمو التي يجري الحديث عنها هشة إلى درجة أن ذلك لا ينسحب على مجمل القطاعات الاقتصادية الأخرى وبالتالي فالعافية التي نشهدها لا تعدو كونها ظاهرة لا تلبث حتى تزول نتيجة الحوافز المالية التي اقتات عليها الاقتصاد العالمي خلال العام الماضي أو أن المؤسسات كانت بحاجة هي الأخرى إلى حركة تصحيحية تعقلن من خلالها احتياجاتها من العمالة وبالتالي فظروف الاقتصادية التي عرفتها إبان الأزمة المالية تجعلها قد تخلصت من أعباء زائدة فيما يخص بالعمالة وستعمل في المستقبل على السير بخطوات محسوبة ليست مبنية على الرقبة في زيادة الإنتاج بقدر ما هي مبنية على مراعاة استيعاب السوق والأخذ بمبدأ الحيطة والحذر فبحسب الدراسات فإن الولايات المتحدة حاليا وخلال شهر سبتمبر الماضي عرفت الانخفاض الحادي والعشرين لسلسلة مستمرة من فقدان العمال لأعمالهم.. أطول بطالة تصاعدية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن بدأت وزارة العمل جمع البيانات المتعلقة بالبطالة في العام 1939. أي أن 15 مليون عامل أمريكي صاروا عاطلين عن العمل.. تقريباً وهو ضعف عدد العاطلين عندما بدأ الركود في نهاية العام 2007، وهو أعلى رقم منذ أن بدأت وزارة العمل هذه الإحصاءات العام 1948. بالإضافة إلى هؤلاء العاطلين كلياً عن العمل، تم تسجيل 9.1 مليون عامل آخر رسمياً يعملون بشكل غير طوعي بدوام جزئي، وأُجبروا على أن يعملوا ساعات عمل أسبوعية أقل من حاجاتهم بحيث لا تكفي للحفاظ على مستويات معيشتهم. وهكذا يصل الرقم الإجمالي للعاطلين عن العمل- كلياً وجزئياً- إلى أكثر من 25 مليون عامل.. وهو رقم، يفوق كثيراً عدد العاطلين عن العمل خلال فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي. وبحسب دراسة أخرى فإن مقابل كل فرصة عمل يوجد حالياً ستة عمال عاطلين عن العمل في أمريكا. وبحسب استطلاع أجرته المائدة المستديرة رابطة الرؤساء التنفيذيين للشركات فإن %40 من الشركات الأعضاء، تتجه إلى خفض رواتب العاملين فيها خلال الأشهر الستة القادمة (تخفيض ساعات العمل)، في حين أن 13% فقط من هذه الشركات لديها خططاً للتوسع. وهو الحال بالنسبة لمنطقة اليورو حيث يوجد 15.7 مليون عاطل وهو الأعلى منذ أن بدأ تسجيل البطالة في دول المنطقة في منتصف تسعينيات القرن الماضي. ومن المتوقع أن يظل هذا العدد في ارتفاع حتى منتصف العام الحالي ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD التي تضم أكبر 30 دولة صناعية، فإن معدلات البطالة لهذه الـ 30 دولة ستصل إلى %10 العام 2010، وهذا المعدل يُقارب مثيله في الولايات المتحدة لنفس العام. بحدود 57 مليون عامل سيتحولون إلى عاطلين عن العمل، وبما يُعادل سكان: فرنسا، إيطاليا، وكوريا الجنوبية مجتمعة. وإذا كانت البطالة قد وصلت في مجتمعات كهذه قد وصلت إلى أرقام قياسية فما بلك بالدول النامية التي كانت بالنسبة لها صفة سائدة بسبب قصور النمو الاقتصادي عن ملاحقة النمو السكاني ونتيجة لعجز المدخرات المحلية عن تمويل الاستثمارات اللازمة لتوفير فرص العمل. فالدول العربية على سبيل المثال لا الحصر والتي تعتبر وكرا من أوكار الأمراض الاقتصادية وهي الآن في أبهى حللها لأن العجز الذي كانت تعانيه في الماضي أصبحت تشاركها فيه جميع دول العالم مما يجعلها لا تحرك ساكنا لأننا كلنا في الهوا سوا فبحسب التقديرات فإن عدد من سيفقدون وظائفهم بسبب الأزمة ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين شخص ليصل عدد العاطلين في المنطقة العربية نحو 18 مليونا وبنسبة تقدر بنحو 14% من قوة العمل العربية.
وإذا أرجعنا الأسباب التي فاقمت من الظاهرة وستجعل في المستقبل الحد منها على الأسس التي دأبت المؤسسات على التوظيف عن طريقها شبه مستحيلة والأجور التي دأب العمال على تقاضيها من المستحيل أن تعود إلى ما كانت عليه بل ستتقلص إلى أدنى المستويات وفي أحسن الأحوال سيبقى كل عامل بين خيارين أحلاهما مر إما أن يضاف إلى طابور العاطلين أو أن يتقلص أجره إلى ما لا يسد الضروري من احتياجاته وعلى مرأى ومسمع من حكوماته فالحكومات تحركت لإنقاذ المؤسسات المالية من الانهيار ولكنها بالمقابل لم تربط ذلك بخلق فرص جديدة للعمل أو المنع من التسريح بغية إعادة البسمة إلى أصحاب الجيوب الخاوية. وإذا لم تتخذ الطبقات العاملة إجراءات عالمية وفورية تحمي لكل ذي حق حقه انطلاقا من احتياجات الجماهير وليس من منطلق متطلبات الربح للشريكات الكبرى ولن يتم ذالك إلا من خلال إعادة تحديث وتطوير البنى التحتية في الدول وليس من خلال الجري وراء تحقيق رغبات مؤسسات أهلكت الحرث والنسل.
( بوابة الشروق 6/6/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews