العوامل الاقتصادية في أزمة الصحافة والإعلام... خانقة
تعلن الصحافة منذ عشرين عاماً، وشك موتها وزوالها، وتختلط في إعلانها قشعريرة القلق والفرح معاً. وهي تتوسل بهذا التلويح الى استدراج مساعدات الدولة وإعفاءاتها. وتحذّر من أخطار اندماج شركات الإعلام ودور اصحاب الشركات الصناعية، وتندد بمنافسة التلفزيون غير المشروعة قبل أن تعرِّض أشد التعريض بالإنترنت وبالصحافة المجانية وتسلط نقابات عمال الطباعة، وتأسف لزيادة تعرفة البريد وإحجام بروكسيل عن الاضطلاع بمهماتها. فالصحافة المسكينة هي ضحية تكالب العالم كله عليها، وتستحق من غير تردد دعم الدولة غير المشروط بمقابل، ولا تهاون في حرية التعبير المطلقة. فهل هذا هو، فعلاً، واقع الصحافة؟ وهل هجم الذئب على القطيع هذه المرة، وصدق الراعي الذي طالما صرخ من قبل وتكهّن بهجوم الذئب؟
لا بد من الإقرار هذه المرة بأن راعي القطيع على حق، وبأن حال الصحافة من سيء الى أسوأ. وأول أعراض التردي انخفاض عدد القراء. طاول الانخفاض أولاً الصحافة الإخبارية غير المتخصصة وفي مقدمها الصحافة اليومية الوطنية (القومية، في مصطلح بعض البلدان)، على غرار «لوموند» و»لوفيغارو» و»ليبراسيون» (الفرنسية). أما الصحف المحلية، أو صحف المناطق والمحافظات، فصمدت. وتماسكت المجلات الأسبوعية الإخبارية (نيوز ماغازين)، مثل «لونوفيل أوبسرفاتور» و»ليكسبريس» و»لو بوان» (الفرنسية كذلك)، وزادت مبيعاتها واشتراكاتها في بعض الأعوام. وكذلك شأن صحافة التسلية وفي مقدمها مطبوعات أخبار النجوم وأسرارهم.
وفي 2012، سنة انتخابات رئاسية، كان يفترض بالصحافة الإخبارية ان تشهد بعض الزيادة في القراء. لكن توزيعها، على خلاف التوقّع، تقلص 7.8 في المئة قياساً إلى 2011. وخسرت الصحافة الأسبوعية عموماً 4.4 في المئة، والمجلات الأسبوعية الإخبارية 2.5 في المئة، وعلى مدى أطول، أي منذ 2007، أصاب التردي «عائلات» الصحافة كلها: تقلّص توزيع صحافة الجمهور العريض 24 في المئة. وبلغ تقلص الصحافة اليومية الوطنية 16 في المئة، والصحافة اليومية المحلية 10 في المئة، والمجلات الأسبوعية 27 في المئة (و30 في المئة لفئة المجلات الإخبارية العمومية والقضائية والاجتماعية، وهي فئة مختلطة تجمع «باري ماتش» و «لوفيغارو ماغازين» و «لوموند ديبلوماتيك» و «لوبيلران» أو «شوك» و «لونوفو ديتيكتيف»). وخسرت الصحافة الاقتصادية في الفترة ذاتها 39 في المئة من مبيعاتها، وصحافة النجوم 28 في المئة، وصحافة التلفزة 27 في المئة، والصحافة النسائية 18 في المئة، وصحافة المسنين 30 في المئة.
تفصيل هذه الأرقام والتدقيق فيها يثيران القلق. فالنشر المدفوع أو المنقود يتألف من 3 عناصر: البيع في الأكشاك، الاشتراكات (بواسطة البريد أو بواسطة التوصيل)، البيع باليد. والمشتري ليس هو القارئ في النوع الأخير من التوزيع، ومثاله شراء الفنادق أو شركات الطيران الصحف والمجلات «نيابة» عن زبائنها. وفي مقابل كمية المطبوعات المشتراة والبروز الناجم عن الاختيار، ترجّح كفة المشتري على كفة البائع، فتباع المطبوعة بأقل من سعرها الاسمي، وبعض الصحف «يشتري» توزيعه على متن الطائرة أو في غرف نزلاء الفندق. ويلاحظ توسُّع هذا الصنف من البيع: فهو بلغ 6 في المئة من المبيعات، وبين 2007 و2012، تحسن المبيع 31 في المئة. وهو كان وقفاً على الصحافة الوطنية، لكنه عمَّ كل اصناف الصحافة، وينتشر في الشبكات كلها: المصارف والحلاقين ومكاتب إيجار السيارات وسيارات التاكسي... وإذا احتسبت هذه الأبواب من المبيعات، وهي لا تغطي نفقات صناعتها ظهر تردي التوزيع في صورة أكثر حدة. وتعوّل المطبوعات، عموماً، على جمهور مزدوج، القارئ والمعلن، وعلى مصدري عوائد. وإلى اليوم، أي الى الأزمة الحالية، وسع المطبوعات التعويل على توازن المصدرين. ومن علامات الأزمة تقلّص عوائد الإعلان وانكماشها. وأحد معايير توجيه المعلنين استثمارهم هو التوزيع، أي سوق القراء والمبيعات. ويميل اصحاب المطبوعات الى «نفخ» مبيعاتهم، واعتماد توزيع من غير عوائد، سعياً إلى استمالة المعلنين، وتعويض المبيع من غير عوائد من طريق الحصص الإعلانية وعوائدها. وطيلة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بلغت حصة العوائد الإعلانية من رقم الأعمال الإجمالي 40 الى 47 في المئة. وانكمشت هذه الحصة، بين عامي 2007 و2012، نحو 20 في المئة، واقتصرت على 32 في المئة من رقم اعمال الصحافة الإجمالي. فعوائد التوزيع لم «تنخفض إلا» 10 في المئة، والعامل الذي قصر الانخفاض على العشر هو صمود الاشتراكات، وارتفاع اسعار المطبوعات للوحدة.
وسادَ بعض الوقت، في بدايات الإنترنت، حسبان ان الإنترنت قد يعوّض للصحافة ما خسرته من عوائد إعلانية ومن عوائد التوزيع. وأغفل هذا الحسبان أمرين: عناصر كلفة إنتاج الإعلام وعناصر عوائد الإنترنت. في الأمر الأول، إذا مثلنا بمجلة اسبوعية تطبع 200 ألف نسخة، ونسبة الاشتراكات من مبيعها 80 في المئة، فينبغي تقدير موازنة الصحافيين (بمن فيهم العاملون في القسم الفني) بـ 40 في المئة من جملة الكلفة، وبـ1 أو 6 في المئة موازنة الطباعة، و17 في المئة حصة التوزيع، و30 في المئة كلفة متفرقات بعضها إداري وبعضها إعلاني وبعضها الثالث ينفق على الدراسات والمعلوماتية. وفي معظم أصناف المطبوعات الصحافية لا تتعدى حصة الورق 20 في المئة من جملة الكلفة، ولا تقل كلفة الصحافيين عن 40 في المئة. وهكذا، فالنشر الإلكتروني يقلص كلفة الصحيفة، مقارنة بالصيغة الورقية، نحو الثلث.
أما عوائد الصحافة الإلكترونية فقليلة. فتعرفة الإعلان في «المطبوعة» الإلكترونية، قياساً إلى عدد الأشخاص ذاته، تقل عشرة أضعاف عن مثيلتها الورقية. وعوائد البث ضئيلة في سوق اعتادت المجانية. والرابحون من انقلاب الإعلان الى الشبكة الإلكترونية هم الشركات العملاقة أمثال غوغل ومايكروسوفت وفايسبوك وأورانج... ومجموعة النشر الصحافي التي تتبوأ المكانة الأولى بين شركات الإعلان تحل المنزلة السابعة منها، والمجموعة الصحافية التي تليها تحل في المنزلة الرابعة عشرة. وعوائد المنزلتين أقل من عوائد المجموعات المتصدرة بما لا يقاس.
يخلص المراقب إلى الإقرار بأن الشبكة، مقارنة بالورق، ليست حلاً مجزياً. فما عساه يكون الحل إذا احتسبت عوامل الإنتاج والكلفة؟ لا مناص للمطبوعة من القبول بما تقبل به المنتجات الأخرى، من غير إنكار خصوصيتها. وعلى كل منتج اعتبار معايير أو قواعد يعرفها المسوّقون: معيار الجمهور وهو هدف التسويق أو أهدافه؛ ومعيار المنتج وينبغي إنتاجه على نحو يستجيب حاجات الجمهور؛ ومعيار قنوات التوزيع؛ والتوزيع والدعاية؛ والسعر وهو أسعار تتفاوت تبعاً لقنوات المبيع (الكشك او الاشتراك أو الإنترنت).
ويقتضي المعيار الأول تمييز جمهور القراء من جمهور المعلنين. وإلى ذلك، فـ «المنتج» الصحافي لا يعرِّفه التسويق بل يعرِّفه الصحافيون. وهو من القطاعات القليلة التي يتولى المنتجون فيها تعريف منتجهم. ولا يقتصر التعريف على المادة المنشورة أو المحررة. فالإطار نفسه، أي خط التحرير والماكيت، يضطلع الصحافيون برسمه، ويطعنون في تدخل عامل خارجي أو إداري في رسمه. والسمة الثالثة الخصوصية هي دور الدولة او السلطات العامة. فالقطاعات التي تتولى فيها الدولة دوراً راجحاً كثيرة، منها الدفاع وصناعاته والبناء، والدولة في بعض هذه القطاعات آمرة أو مصدر طلب. وهي، في حقل الصحافة، مصدر مساعدات. ودور المساعدات والمنح في اقتصاد الصحافة، بارز: فالضريبة على القيمة المضافة لا تتجاوز 2.10 في المئة، وقيمة النقل البريدي مخفضة، وثمة مخصصات لموزعي الصحف ولتحديث القطاع. وتتحمل الدولة (الفرنسية) جزءاً من نفقات وكالة الصحافة (الفرنسية) وهي مصدر بارز من مصادر الأخبار.
والصحافة نشاط صناعي، ولا يختصرها النشاط الفكري الذي يغلب على صورتها عند القراءة. والاستثمارات فيها كبيرة، ومواقيت حركة الأموال ضيّقة وتملي على التوزيع ضوابط مرهقة. فالصحيفة يفوت وقت «استهلاكها» قبل المدة التي يفوت فيها استهلاك علبة اللبن! وعلى الصحف ان تقدم القراء على المعلنين، فالقراء هم الواسطة الى المعلنين، واستجابة حاجاتهم معيار راجح. بعض المطبوعات يوغل في تقصي العوامل الاستراتيجية بينما ينتظر القارئ تعليل الحوادث اليومية التي تمر به وتقلقه أو تسرّه. ولا يجوز أن تغرق المعالجة القريبة واليومية في الانحياز المتحزب. وانتهاج التحرير خطاً أو سياسة لا يعني إعلاماً متوقعاً سلفاً ومعروفاً. والإعلام الذي يُقرأ من عنوانه سيء وضعيف. وتقلصُ التوزيع يحمل الصحف على الانكفاء إلى جمهور ضيّق، ومماشاة قناعاته من غير اعلامه. والانكفاء قليل الكلفة، والعوائد طبعاً. وإصدار صحيفة، الشطر الغالب على مادتها هو التعليقات أيسر كثيراً من اصدار صحيفة تغلب تحقيقاتها تعليقات صحافييها. ويلاحظ أن الصحف التي تمضي على الاستثمار في مادتها هي أقواها صموداً.
ويخطئ التحرير الذي يحسب ان القارئ ملمّ بالحوادث والوقائع وأطوارها. فعليه العودة الدائبة الى الموضوعات، ورسم مساراتها مجدداً. فما يصبو إليه القارئ هو تنبيهه الى الطور الجديد الذي بلغه مسار هذا الموضوع أو ذاك. فالجوع الذي كان يصيب أواخر ستينات القرن العشرين 33 في المئة من سكان الأرض لا يصيب عام 2010، «غير» 15 في المئة. وهذا رقم فظيع (925 مليون شخص يجوعون)، لكن إغفال الفرق بين الحال قبل نصف قرن وبينها اليوم يجافي الحقيقة والأمانة. ومالت صحافة لا يستهان بحجمها الى الرتابة والرزانة المفرطة، بذريعة الجدية. لكن ازدراء متعة القارئ وإقباله على ما يقرأ لا يصح أن يكون معياراً حاكماً في الكتابة الصحافية.
قد تبدو هذه «الوصايا» وإيحاءاتها متأخرة. والأرجح أنها متأخرة فعلاً. فحين بيعت مجلة «ليكسبريس» الفرنسية الأسبوعية عام 2006 الى شركة رولارتا، بلغ ثمن مبيعها 250 مليون يورو. وفي 2014 نزل أصحاب «لونوفيل أوبسرفاتور»، الفرنسية الأسبوعية، عنها الى مالكي «لوموند» في مقابل 20 مليون يورو. ويبلغ توزيعها 500 ألف نسخة، وموقعها يعد من المواقع الإعلامية البارزة.
( المصدر : إسبري الفرنسية 2014-05-28 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews