السياحة الداخلية ... ثقافة الترحاب أولا

الحديث عن السياحة الداخلية يتم تناوله بسطحية وفي دائرة ضيقة من المقومات والأنشطة السياحية، ويستولي على الكثيرين -سواء من المسؤولين أو العموم- الشك في نجاحه، ويسيطر عليهم التفكير السلبي، ولا يلتفتون لسلة الفرص المتنوعة التي يجلبها قطاع السياحة. هناك من يرى أن الحديث عن السياحة الداخلية نوع من العبث ويختزل مقوماتها في جمال الطبيعة ولطافة الطقس وجودة الخدمات الحضرية، وهي رؤية قاصرة تحجب الاعتراف بقطاع اقتصادي مكتنز بالفرص المتعددة، فهو يولد دخلا ويوفر وظائف ويدفع بالتنمية المحلية لمستويات أعلى. الإشكالية لدى هؤلاء المثبطين لتطوير العمل السياحي عدم إدراكهم في أن قطاع السياحة قطاع اقتصادي، خفي في معظمه؛ أي عامل فعال غير مباشر، يحفز جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى دون استثناء، ولا يمكن حساب تأثيراته المباشرة فقط. فالسياحة تؤثر في قطاعات التجزئة والعقار والمطاعم والفنادق والصحة وغيرها. والسياحة بطبيعتها محلية؛ أي تختص بالمكان وتنميته وترتبط بالثقافة المحلية، ولذا فهي تسهم بالتنمية المتوازنة. ولأنها تعتمد على المقومات الطبيعية، فهي تحافظ عليها وتسعى في تنميتها تنمية مستدامة. وهكذا نجد أن السياحة تحقق سلة من الأهداف التنموية المتداخلة التي لا غنى عنها. إلا أنه في اقتصاد ريعي يميل فيه الناس للاستهلاك وليس الإنتاج، يفضل الناس المكوث في منطقة الراحة والقيام بالأنشطة التجارية المألوفة والأعمال المعتادة، ولا يحبذون الانخراط في أعمال إبداعية ومتميزة تجلب موارد مالية من خارج الاقتصاد المحلي، وهو ما تفعله السياحة كمورد اقتصادي. وتمثل السياحة اقتصادا تراكميا يتداخل فيه أطراف متعددة؛ فهناك الكثير من الأنشطة التي تجتذب السياح قد تكون ثقافية أو صحية أو تعليمية .. وهذه الأنشطة هي مجرد نواة تتفرع منها أنشطة أخرى. على سبيل المثال قد يُنظم مؤتمر علمي دولي أو معرض للكتاب فيأتي الزوار من مختلف مناطق المملكة وخارجها فيكون مناسبة لتقديم منتجات وخدمات سياحية متعددة. هذا الأمر يحتاج إلى استراتيجية وطنية وهيئات محلية فاعلة كالمجالس البلدية والمحلية ومجالس المناطق .. تتمتع باستقلال إداري ومالي، وترسم خطة طريق للتنمية السياحية المحلية، تكون جزءا من استراتيجية محلية تستهدف تطوير الاقتصاد المحلي عموما وتطوير العمل الجماعي، وتمنح مكونات المجتمع المحلي رؤية واضحة لما ينبغي عمله، وتحدد الأدوار والمسؤوليات. هذه النظرة المجتمعية المشتركة ضرورية ومهمة في التنمية السياحية المحلية، إذ إن السياحة عمل جماعي محلي تتداخل فيه عدة أطراف وهو أكثر من إنشاء مدينة ملاه أو منتجع على البحر أو بناء فندق. السياحة نسيج مترابط وثقافة مجتمعية تعتمد على الترحاب وحسن استقبال الزائرين. وهذا ما يفسر ازدهار السياحة في بعض مجاهيل إفريقيا وآسيا وهي تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة العصرية، بل قد يكون ذلك ما جذب السياح إليها، لكن تبقى ثقافة الترحاب المحرك الرئيس والإطار الذي تعمل من خلاله السياحة.

ولذا فإن أي محاولة لتطوير قطاع السياحة يجب أن تبدأ بنشر وتعزيز ثقافة الترحاب لكونها العنصر الأساس للنجاح، فمتى ما وجدت ثقافة الترحاب فثمة حركة سياحة واسعة! الطبيعة الجميلة والطقس اللطيف وجودة الخدمات الحضرية .. جميعها تسهم في الجذب السياحي، لكن لا تكفي، إذا لم يكن هناك ثقافة الترحاب. لأنه من الصعب أن يأتي أناس لمكان غير مرحب بهم! فالسياحة في جوهرها تواصل اجتماعي وإنساني وثقافي يأنس فيه الإنسان ويرتاح نفسياً. والتعامل الحسن واللطافة وتقديم الخدمات بلباقة ومهنية عالية يمنح الزائر الراحة والطمأنينة النفسية التي ينشدها وجاء من أجلها. يخطئ من يظن أن الطقس الجميل والطبيعة الخلابة وحدها كافية لتصنع السياحة، لأن هناك الكثير من المناطق السياحية التي تتمتع بهذه الصفات، ولكن ليس جميعها على المستوى نفسه من الجذب السياحي. إن ما يصنع الفارق بين المناطق السياحية، هو تميز المنتج السياحي بحيث تقدم خدمة لا يستطيع تقديمها الآخرون أو يعجزون عن تقديمها بالمستوى ذاته من الجودة والحرفية، ويقع في أساس التميز الثقافة المحلية وأسلوب الحياة وطريقة التعامل مع الزائرين وحسن استقبالهم والترحاب بهم. السؤال كيف يمكن تنمية ثقافة الترحاب لدى المجتمعات المحلية؟ وقبل ذلك، هل المجتمعات المحلية أساسا ترغب في تطوير السياحة المحلية؟ لا يمكن الإجابة على التساؤلين إلا من خلال هيئات محلية تعكس الرأي العام المحلي وهذا ما لا تستطيعه المجالس النيابية في وضعها الراهن سواء على مستوى المدن أو المحافظات أو المناطق، فهي ضعيفة ومسلوبة الإرادة ومحدودة الصلاحيات. ولذا لن تستطيع الهيئة العامة للسياحة والآثار مهما أوتيت من إمكانات وعزيمة وإصرار أن تنجز المشروع السياحي الوطني بالمستوى الذي تنشده وتتطلع إليه. إذ تعتمد السياحة المحلية على حماس ورغبة السكان المحليين في تنمية اقتصادهم المحلي وأن يروا في ذلك حلا لكثير من مشكلاتهم ورفعا لمستوى معيشتهم وبناء مستقبلهم. إن هوية المكان هي العنوان الأبرز والباب الواسع الذي تلج منه صناعة السياحة، وهذا يتطلب امتلاك المكان من قبل السكان المحليين امتلاكا حقيقيا يصل بهم إلى حد القناعة برؤية مشتركة، ويدفعهم نحو التعاون والتكامل والعمل بروح الفريق وإدراك أن تعظيم المنفعة الخاصة للأفراد لا يتأتى إلا من خلال تعظيم المنفعة الجماعية.

هذه الهوية المكانية للمجتمعات المحلية مفقودة! أو أن هناك على الأقل غيابا لقنوات رسمية تتيح لمكونات المجتمع المحلي التلاقي والنقاش للوصول إلى الإحساس الجماعي ووحدة الهدف. وهذا يتطلب عملا مؤسسيا من خلال هيئات محلية منتخبة تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي وسلطات نافذة على الأجهزة الحكومية المحلية وتكون مسؤولة عن رعاية وتحقيق مصالح المجتمع المحلي. ولتعزيز العمل المشترك والفعل الاجتماعي والتثقيف العام وتحفيز أفراد المجتمع المحلي على ثقافة الترحاب، نقترح إنشاء إذاعات محلية تقوم بنشر الأخبار المحلية والبرامج السياحية وإتاحة الفرصة للسكان المحليين من أجل التداخل وإبداء الرأي حول الأنشطة والفعاليات السياحية. كما سيكون للإذاعات المحلية دور في جلب السياح وإرشادهم للأماكن والأنشطة السياحية، وعن حالة الطقس والمرور. هذا هو السبيل الوحيد في صناعة ثقافة الترحاب الاسم الأول للسياحة الداخلية.

( المصدر : الاقتصادية 2014-05-18 )