6 لحظات فارقة في تاريخ بريطانيا الاقتصادي بعد الحرب
ذكرياتي حين كنت في بداية مرحلة البلوغ الأولى تعود إلى جهود طال عليها الأمد من أجل إقناع السير ونستون تشيرشل أن يتقاعد من منصبه رئيساً للوزراء في منتصف الخمسينيات. ظاهرياً، كانت الحجة هي ما إذا كان لا يزال أهلاً للوظيفة في الوقت الذي كان يشاع عنه أنه لم يكن قادراً على معرفة أعضاء حكومته. (وفي رأيي قد يكون هذا علامة على حسن الذوق). لكن كان هناك شيء ما بين السطور. فقد خشي الصقور في وزارتي الخارجية الأمريكية والبريطانية من أن موقفه كان يتسم باللين بالنسبة للشيوعية، بسبب دعواته المتكررة لعقد "قمة" مع القادة السوفيات. لكنهم كانوا بعيدين عن الصواب تماماً. ما جال في خاطر تشيرشل ربما كان نداءً أخيراً لقادة روسيا لإنهاء محاولات التخريب في الغرب مقابل الاعتراف بدورهم الفعلي في بلدان أوروبا الشرقية.
لم يتم اختبار هذه الأفكار أبداً قبل وصول إدارة أنطوني إيدن التي لم تدم طويلاً، والتي استمرت في السلطة عامين مشؤومين حتى أوائل عام 1957. وما زلت أذكر ملصقات حزب المحافظين مع صورة إيدن وهو يقول: "نعمل من أجل السلام". في الواقع الذكرى التي بقيت من حكومته بالدرجة الأولى هي بسبب حملة السويس الكارثية عام 1956. كان السبب فيها هو تأميم قناة السويس من قبل الزعيم المصري، جمال عبد الناصر. وكان الهتاف ينادي بأنه لا يمكن لمصر تشغيل القناة وأن ما قام به الزعيم المصري كان بالتالي تهديداً للتجارة العالمية. لكن قبل أن يثبت بطلان هذا الادعاء بشكل حاسم، اندلعت حرب إسرائيلية ـ مصرية أخرى، وكان الغرض الظاهري من القناة الآن هو الفصل بين الجانبين.
هارولد ماكميلان، الذي كان في ذلك الحين وزيراً للمالية، اعتقد خطأ أن الحملة التي حث عليها ستحصل على مباركة إدارة أيزنهاور. وعندما تبين أن الأمر ليس على هذا الحال، ثم وقع الضغط الذي لا مفر منه على الاسترليني، تغيرت لهجة ماكميلان بسرعة، وقال: "هذا فوق طاقتنا المالية".
في 1975، حين أصبح ماكميلان رئيساً للوزراء، بعد إيدن، وجد نفسه أمام ضغط على الاسترليني في عهده هو بالذات. ووافق على مضض على سلسلة من السياسات "الانكماشية" تم إعدادها لبيتر ثورنيكروفت، وزير المالية في ذلك الحين، وهي سياسات قيل لنا إنها تدعى "إجراءات سبتمبر". وكانت هذه من النوع الروتيني المعروف، مثل تشديد القيود على برامج الشراء بالأقساط، والقيود على إقراض البنوك، وقيود متواضعة على الحكومة. وفي ذلك الحين شعر عدد من المعلقين الاقتصاديين، وكنتُ منهم، بالغضب لأن الحكومة اتخذت هذه الإجراءات بعد سنتين أو ثلاث سنوات من النمو الاقتصادي القريب من الصفر. بصرف النظر عن التبريرات التي أعطيت في ذلك الحين، كان من الواضح أنه كان وراءها سبب واحد، وواحد فقط: محاولة الوقوف في وجه أي تهديد بتخفيض قيمة العملة.
العضوية الأوروبية
كانت الفترة اللاحقة أكثر سلاسة بكثير. ومهما كان الأثر الذي ترتب على "إجراءات سبتمبر" فقد تبدد ومضى ماكميلان ليفوز في انتخابات 1959 بشكل مريح. لكن بحلول 1960 بدأ الناس الذين ظنوا أنهم يتلقون أجرهم يشعرون بالقلق على الأوضاع، وأخذوا يتوترون من تراجع معدل النمو في بريطانيا وراء معدلات النمو في البلدان المنافسة الأوروبية. وبدأ البحث في أروقة الحكومة البريطانية عن الإصلاحات الأساسية. وكان أقواها هو إلغاء ممارسة كان الموزعون فيها يبيعون منتجات شركات التصنيع بأسعار محددة (تقع عند حد أدنى من الأسعار، أو تزيد عليه). وكان على رأس هذه الجهود إدوارد هيث، وهو قرار كاد أن يسبب سكتة دماغية للنواب المحافظين في البرلمان. لكن كان هناك قرار يخيم على بريطانيا ولم يعد من الممكن تجنبه، يتعلق بتقديم بريطانيا طلباً لعضوية ما كان يدعى في ذلك الحين "السوق الأوروبية المشتركة"، التي كانت تضم ستة بلدان، هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج.
وكان حافز ماكميلان سياسياً بالدرجة الأولى، مثلما كان حافز خصمه الأول، الرئيس الفرنسي شارل ديجول. كان الهم الذي يقلق رئيس الوزراء البريطاني هو أن تبقى بريطانيا معزولة عن أوروبا الغربية الموحدة، لكن كان هذا ما يريد ديجول تحقيقه بالضبط حين أصدر الفيتو على عضوية بريطانيا في بداية 1963 – ما أثار استياءً شديداً لدى ماكميلان. وحتى بعد مرور كل هذه المدة ما أزال أجد من الصعب أن أسامح الحكومة البريطانية على مثل هذا الاستعداد الرديء. وسرعان ما جاء السير أليك دوجلاس هيوم ليتولى رئاسة الوزراء، وكان موضع سخرية بسبب لقبه "الإيرل الرابع عشر"، لكنه لم يكن أسوأ حالاً من كثير من الناس العاديين من غير ذوي الألقاب، وكان وزير ماليته، ريجينالد مودلينج، من بين عدد قليل من وزراء المالية المثقفين اقتصادياً، الذي أشرف على توسع معتدل أطلق عليه اسم "الاندفاع من أجل النمو".
مشكلة مع الاسترليني
بحلول الانتخابات العامة في تشرين الأول (أكتوبر) 1964 كان من الواضح أن بريطانيا تعاني مشكلة حقيقية في ميزان المدفوعات. ولن نعرف أبداً ما إذا كان مودلينج سيقرر تعويم الاسترليني، أو يخفض قيمته، على اعتبار أن حزب العمال فاز في الانتخابات جزئياً استناداً إلى شعار "13 سنة ضائعة" (1951 – 1964). وأذكر أني شعرت بالسخط من الطريقة التي تخلت بها حكومة هارولد ويلسون الجديدة بالتقدم الذي تم تحقيقه، وذلك بأن ضخَّم من مشكلة ميزان المدفوعات ومع رفضٍ، على طريق صبيان الكشافة، أن يلمس معادِل قيمة الاسترليني. ووقع المحظور وتم تخفيض الجنيه في خريف 1967. وما أزال أتذكر مؤتمراً صحافياً كان فيه جيمس كالاهان، وزير المالية آنئذ، الذي ظهر على نحو مناسب بمظهر الحزين الذي أصيب بخيبة أمل، في حين كان ويلسون يحاول الظهور بمظهر الشاب الشجاع الذي لا يكترث لشيء.
وبمجرد تخفيض قيمة الجنيه، اختفى معظم الاهتمام بموضوع سعر الصرف. ولم يصبح التضخم مشكلة بحد ذاته فعلاً إلا في السبعينيات. وكانت الحكمة السائدة حينها هي أن التضخم هو نتيجة لضغط صاعد على الأجور من قبل اتحادات عمالية تتمتع بقوة زائدة عن الحد، وكانت مهمة الحكومة هي إقناعها، أو إلزامها، بضبط النفس. والواقع أن الأمر كان في معظمه بسبب الصعاليك الذين هم على شاكلة إينوك باول (وبعض أساتذة الجامعات) الذين جادلوا بأن التضخم ناشئ عن السياسات النقدية للحكومة ولبنك إنجلترا. وكان هناك عدد لا يحصى من الاتفاقيات و"العوامل الإرشادية" التي تهدف إلى تثبيط الاتحادات عن التفاوض على أجور أعلى، والذي هو في الواقع كان الهدف الرئيس من وجودها.
التخطيط للنمو
حصل تحول كبير في الاتجاه تمثل في حركة التخطيط. وإذا كنتَ عالقاً بالفعل، فإن أحد الشعارات الجذابة هو أن تقول: "لنحصل على خطة"، دون أن تقول بالضبط ما هي الخطة. والذي أشعل فتيل هذه الحركة عدد من الأشخاص لاحظوا أن الحكومة الفرنسية كانت لديها وثيقة تدعى "الخطة أ". ولاحظ المتشككون أن ألمانيا كانت تتفوق في الأداء على بريطانيا حتى بدون وجود وثيقة من هذا القبيل.
والطريقة التي اخترتُ أن أنظر بها إلى التخطيط هي أنها مثل أبحاث السوق من الأشخاص المتباهين بثقافتهم. كانت سلسلة من التخمينات حول ماذا سيكون عليه الناتج من صناعات مختلفة لو كان متوسط نمو الاقتصاد هو 3 أو 4 في المائة في السنة. وقد راهنتُ على 4 في المائة لسبب بسيط هو أني أردتُ أن تتبع وزارة المالية وبنك إنجلترا سياسة توسعية تجاه إدارة الطلب، لكن في واقع الأمر لم يتم تحقيق حتى نسبة 3 في المائة على مدى أية فترة مستدامة.
قدوم النظرية النقدية
في تلك الأثناء عاد التضخم ليحتل العناوين الرئيسة. وتوقع معظم الاقتصاديين حدوث انتفاخ مؤقت بعد تخفيض الجنيه في 1967، لكن رفض التضخم للانعكاس كان صدمة.
والأمر الباعث على الاهتمام هو أن الشخص الذي تزعم موقفاً يقوم على اتباع منهج نقدي تجاه التضخم (أي التحكم في عرض النقود في الأسواق) كان جيمس كالاهان، رئيس الوزراء من حزب العمال. ففي كلمة له عام 1976 (قيل إنه تأثر فيها بزوج ابنته، بيتر جاي) تبرأ من فكرة أن الحكومة تستطيع شق طريقها نحو التوظيف التام بالإنفاق لمواجهة ازدياد المطالب من الاتحادات، وهي كلمة ظل زعماء حزب المحافظين يستشهدون بها حتى الموت.
أما إدارة مارجريت تاتشر التي تولت السلطة عام 1979، فكانت من الناحية النظرية ملتزمة بمنهج نقدي تجاه التضخم، لكن هذا لم يكن له أثر على بنك إنجلترا الذي كان بكل بساطة يُداري الحكومة في الوقت الذي كان يمضي فيه على طريقه البرجماتي اللطيف. ومع ذلك انخفض التضخم بالفعل، بصرف النظر عن عدم الانتظام في ذلك، في حين بقيت البطالة عالية، لكنها لم تصل إلى عنان السماء كما حذر النقاد.
التقارب
بحلول الوقت الذي عاد فيه العمال إلى السلطة في 1997، لم يكن قد تبَقَّى أي فرق يذكر بين الأحزاب السياسية حول سياسة الاقتصاد الكلي. وجاء "الاعتصار العظيم" مع الأزمة المصرفية عام 2008. ونُقِل عن أحد المهرجين في وزارة المالية قوله: إن المصرفيين أخذوا مكان الاتحادات في عملية الشيطنة السياسية.
وكانت حكومة العمال هي التي منحت بنك إنجلترا صلاحية الاستقلال التشغيلي. وبصرف النظر عن رأينا في أدائها في هذا الدور، فقد أخرجت الضغط السياسي وأبعدته عن السياسة النقدية التي توقفت عن أن تكون موضوعاً كبيراً تدور حوله المجادلات السياسية. ومع قدوم الركود العظيم في 2008 تغير اسم اللعبة. وهبطت أسعار الفائدة الرسمية إلى القاع – ولا تزال فيه حتى الآن – وبدأ البحث عن طرق تستطيع من خلالها البنوك المركزية تعزيز الانتعاش باستخدام أساليب مثل التسهيل الكمي. ولا يملك المراقب الخارجي إلا أن يلاحظ أن السلطات كانت تقتتل فيما بينها في الوقت الذي كانت فيه إحدى يديها مكتوفة خلف ظهرها بسبب رفض استخدام سياسة المالية العامة، خصوصاً بعد عودة المحافظين إلى الحكم في 2010. وهذا هو مكاننا الآن.
( فياننشال تايمز 31/3/2014 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews