خطة كيري.. تصفية القضية الفلسطينية
لا تملك الإدارة الأميركية -قريبا على الأقل- خطة واضحة لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما إدارته فقط عبر اجترار أسوأ ما ورد في "أوسلو" وخريطة الطريق والمنسول عنهما، لصياغة اتفاق إطار جديد يسمح بديمومة التفاوض حتى زمن آخر، على وقع ما تعتقده حاضنة إقليمية مواتية إزاء ضعف الدعم العربي الإسلامي للقضية الفلسطينية وتحرر الاحتلال من ضغط المساءلة.
"اتفاق الإطار" -الذي يسعى وزير الخارجية الأميركي جون كيري لبلوغه قبيل انتهاء السقف الزمني المحدد للمفاوضات في أبريل/نيسان القادم- لا يؤدي في أحسن أحواله إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، ولا يلبي الأقل من الحدّ الأدنى للحقوق الوطنية الفلسطينية في التحرير وتقرير المصير وحق العودة، بل تصفيتها كليّا.
وخلافا لمنطوق "الوساطة النزيهة"، فإن قيمة الحق العادل والشامل لا تدخل في دائرة مفاهيم الواقعية السياسية لوزير الدبلوماسية الأميركي، ولا في صلب حساب تقديره الخاص نظير جولاته المتوالية إلى الأراضي المحتلة، والتي يستهدف منها الوصول إلى اتفاق فلسطيني-إسرائيلي نهائي، أيّا كان مضمونه بالنسبة إلى الفلسطينيين، فهذا الأمر لا يؤرقه كثيرا، ما دامت أقانيم الأمن الإسرائيلي والمصالح الإستراتيجية للحليفين القديمين متوفرة، وتهمة الفشل في المهمة بعيدة عنه.
وأمام الإصرار والجهد الدؤوب من جانب الوزير الأميركي، ووسط انشغال الدول العربية بقضاياها الداخلية والتفاعلات المرتبطة بمتغيرات المنطقة، مقابل تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، واستمرار الانقسام الفلسطيني والانحياز الأميركي المفتوح للاحتلال الإسرائيلي والمحاولات الغربية لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم مصالحها، فإن الولايات المتحدة ترنو نحو إغلاق ملف العملية السلمية للأبد.
على أن يكون إغلاق الملف لصالح ملفات حيوية أخرى، وترك عجلة التفاوض تدور في حلقتها المفرغة التي لن تصل إلى شيء، عدا كسب الاحتلال المزيد من الوقت من أجل إغراق المساحة المخصصة للدولة الفلسطينية المنشودة بالاستيطان والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية، وفرض الوقائع المغايرة لأي إمكانية لقيامها فعليا.
ورغم إعلان القيادة الفلسطينية -خلال اجتماعها في 15/1/2014- رفض مقترحات كيري، فإن الأخير لا يدخر جهدا للضغط عليها، تحت طائلة التهديد تارة بقطع المساعدات المالية عن السلطة، وأخرى بركن ملف التسوية في زاوية التجاهل إلى حدّ الإهمال، وترك الفلسطينيين يقارعون الاحتلال وممارساته العدوانية اليومية بأنفسهم، تزامنا مع الترويج لمزاعم تحميلهم مسؤولية إفشال الجهود الأميركية للتوصل إلى "سلام محمود" في المنطقة.
ومع درة ما يطرحه كيري من أفكار يسعى لتضمينها في اتفاق إطار "شفهي" وليس مكتوبا، يحدد العناوين العريضة لقضايا الوضع النهائي تمهيدا للتفاوض بشأنها لمدة عامين، وذلك قبل الانتقال إلى خطوة تفاوض الطرفين خلال خمس سنوات أخرى، قابلة للتمديد غير المحدد بسقف زمني وفق متطلبات الحاجة حول كيفية التنفيذ، فإن أقصى الأمر ستكون خلاصته هي "التفاوض لأجل التفاوض"، وصولا إلى ما يمكن تصويره "خرقا" أميركيا للعملية السلمية، غداة ما يعتقد كيري تحقيقه بتصفية القضية الفلسطينية وإخراجها نهائيا من مفاصل التاريخ والجغرافيا العربية، بعد استلاب روح جوهرها وركائز مقوماتها.
وما يريده الوزير الأميركي إقرارا فلسطينيا بمضامين خطته، عبر الموافقة على بقاء جيش الاحتلال لسنوات ممتدة في منطقة الأغوار، وضم الكتل الاستيطانية الكبرى التي تقتطع نحو 12% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، وبقاء السيطرة الإسرائيلية على المعابر والحدود والمواقع الأمنية في الضفة الغربية، واستثناء القدس المحتلة من التفاوض ومن الحل النهائي، أي بمعنى -وفق القيادة الفلسطينية- "دولة فلسطينية بدون معابر وحدود وعاصمة".
أما قضية اللاجئين الفلسطينيين، فلا مكان لها في خطة كيري، باستثناء أربعة خيارات للحل جرى طرحها أمام القيادة الفلسطينية، ليس من بينها حق العودة، بحيث يتم بموجبها تخيير اللاجئين بين الانتقال إلى كندا والعيش فيها، أو العيش في الدولة الفلسطينية المستقبلية، أو البقاء حيثما يتواجدون، لا سيما في الأردن، الذي يستضيف أكثر من 42% من إجمالي ستة ملايين لاجئ مسجلين لدى وكالة غوث الدولية "الأونروا"، باعتباره الحل الأفضل والأكثر واقعية بالنسبة لرؤية كيري، نظير إقناع الأردن بذلك وتعويضه أيضا، بينما سيتم إعطاء وضع اللاجئين في لبنان أولوية المعالجة باعتبارها المسألة الأكثر إلحاحا.
كما يجد اللاجئ نفسه -أيضا- أمام خيار ثالث بتقديمه طلبا للإقامة في الكيان الإسرائيلي، الذي يقوم بدوره بدراسة الطلب وفق معايير وضوابط محددة، تضعها سلطات الاحتلال بنفسها في إطار إنساني فقط، ضمن نطاق "لم شمل العائلات"، ولمدة زمنية تمتد حتى 15 سنة قادمة، مقابل الإسهام في تمويل صندوق لتعويض اللاجئين وتوطينهم حيثما يتواجدون، وبدون الاعتراف بأي مسؤولية تاريخية وسياسية تجاه قضية اللاجئين.
ولا تتضمن خيارات كيري -بأي حال من الأحوال- حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم، التي هُجّروا منها بفعل العدوان الصهيوني عامي 1948 و1967، ولكنها تأخذ بناصية "التوطين" و"الوطن البديل"، محاكاة لمقولات صهيونية مماثلة.
ويعد ذلك موقفا متراجعا لأسوأ ما ورد في "كامب ديفيد2" من جانب الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك، وتم رفضه قطعيا من قبل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وقد عرض باراك حينها إعادة عدد محدود من اللاجئين، إلى داخل فلسطين المحتلة عام 1948 تحت شعار "جمع شمل العائلات"، وضمن الشروط الإسرائيلية، فيما يعود بضعة آلاف -يحدد عددهم- إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية، وتشكيل صندوق دولي لتعويض اللاجئين وتوطينهم في الدول المضيفة، وإضافة بند إلى الاتفاق يفيد بوضع حد للصراع من شأنه أن يحرر الاحتلال من كل مطلب مستقبلي بشأن قضايا الوضع النهائي.
ويستكمل كيري حلقة إسقاط أسّ القضية الفلسطينية بالضغط على القيادة الفلسطينية للاعتراف "بيهودية الدولة"، بصفته شرطا إسرائيليا لإتمام أي اتفاق يتم التوصل إليه بين الطرفين.
إذ لم يعد الكيان الإسرائيلي يكتفي بالاعتراف به "كدولة" ذات سيادة وكأمر واقع، وإنما "دولة يهودية" ذات شرعية دولية بالاتفاقيات والأعراف والقانون الدولي، بما يمنحها مشروعية تاريخية ودينية وقانونية مزعومة، تحمل مخاطر إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم التي هُجّروا منها بفعل العدوان الصهيوني عام 1948، وحرمان المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 من حقهم في وطنهم وأرضهم، وفتح المجال أمام تهجيرهم.
وإذا كانت المتغيرات القائمة على الأرض تمنع قيام الدولة الفلسطينية، بعدما قضم الاحتلال 80% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، مبقيا أقل من 20% فقط للفلسطينيين، تشكل 12% من فلسطين التاريخية، ضمن ثمانية "كانتونات" غير متصلة جغرافيا، فإن خطة كيري تقود إلى نفس الرؤية الإسرائيلية للكيان الفلسطيني المستقبلي الذي لا يخرج بالنسبة إليها عن إطار حكم ذاتي معني بالسكان باستثناء السيادة والأمن الموكولين للاحتلال.
ورغم المحفزات الأميركية للجانب الإسرائيلي من أجل القبول بالاتفاق وفق تلك الصيغة المنسجمة مع رؤيته ومتطلباته، فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتمنع عن ذلك، ويرفض حق العودة من الأساس، حتى لو كانت رمزية، كما يناهض نزعتي السيادة والاستقلالية للدولة الفلسطينية المستقبلية، مسنودا ببرلمان عنصري يضم في أكثر من ثلث مقاعده غلاة المستوطنين والمتطرفين اليمينيين، وتشكيلة حكومية يمينية استيطانية متطرفة، وإزاء انتفاء اختلاف حقيقي بين الأحزاب- بمختلف توجهاتها اليسارية واليمينية والدينية- تجاه القضية الفلسطينية، حيث ترفع مجتمعة "لاءات" العودة إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وتقسيم القدس وحق العودة ووقف الاستيطان، مقابل إما الحديث عن دولة فلسطينية منقوصة السيادة ومنزوعة السلاح أو رفضها كليّا.
بيد أن الموقف الفلسطيني "ثابت" -حتى الآن- في المطالبة بإنهاء الاحتلال وإزالته من كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مع تبادل للأراضي بالقيمة والمثل، وعدم الوجود الإسرائيلي -العسكري والمدني- في منطقة الأغوار، والتمسك بالقدس عاصمة الدولة المنشودة، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194، وذلك بالأخذ بناصية مبادرة السلام العربية، التي أعلنت في قمة بيروت عام 2002، باعتبارها الرؤية الإستراتيجية العربية الوحيدة لحل الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن هذا "الثبات" الموقفي يحتاج إلى أسانيد فلسطينية داعمة -وسط الانشغال العربي الإسلامي- عبر إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية للتصدي لعدوان الاحتلال، والتمسك برفض مقترحات كيري في ظل إجماع شعبي وفصائلي ضد المفاوضات والمطالبة بوقفها، ووضع إستراتيجية وطنية موحدة لمقاومة الاحتلال بشتى الوسائل، من بينها حسم قرار الذهاب إلى الأمم المتحدة لاستكمال المسعى الأممي بالانضمام إلى الوكالات والمنظمات الدولية، وعدم الاكتفاء بالتلويح بالخطوة كورقة عقابية لاحتلال يدرك عدم مقاربتها قريبا.
الثابت أنه مع اتفاقات من نوع إطار كيري ليس هناك ما يشير إلى قرب التوصل إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة، خلف المنعطف القادم على الأقل، إلا أن ذلك يعتمد على صلابة موقف فلسطيني موحد ومضاد للضغوط الأميركية والإسرائيلية، وعدم الارتهان للخيار التفاوضي الأوحد، مقابل استلال خطوات أخرى ستكون أفضل بكثير من الإبصام على اتفاق تصفية القضية الفلسطينية.
( المصدر : الجزيرة 2014-02-12 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews