نحو برنامج تنموي للريف المصري.. رؤية اقتصادية
لا يختلف اثنان علي أن نموذج النمو الحضري في مصر نموذج مختل بشكل خطير, فالريف المظلوم أقل نموا من الحضر, وحتي الحضر غير متوازن في مراحل نموه بين مختلف المناطق، والأدهي من ذلك استراتيجيا, أن المناطق المهمشة أصبحت تمثل خطرا علي مستقبل مصر السياسي لأنها أهملت كثيرا منذ ثورة1952 خصوصا في الشمالين الشرقي والغربي, وفي وسط وجنوب الصعيد.
ودافعي للتذكير بذلك حدثان, الاول زيارتي مؤخرا لسلطنة عمان, حيث تدار عملية التنمية الحضرية في السلطنة باشراف مباشر من جلالة السلطان قابوس بن سعيد نفسه, أما الثاني فهو أن العام القادم سيكون عاما للاستفتاء وللانتخابات البرلمانية التي أتمني قبلها أن يشعر كل مصري بأنه محط اهتمام الدولة. ودعوني أبدأ بأن أعرض بإيجاز كيف أن السلطان قابوس يجمع مجلس وزرائه ومسئولي مؤسساته في زيارة تدوم شهرا كل عام تجوب أرجاء السلطنة للوقوف علي حقائق احتياجات الولايات وشعوبها, ولتوفير الحلول للمشاكل وتقييم ما أنجز, والتخطيط الجيد للمستقبل.
ومثل هذا النموذج لو اتبعناه في حكومات خلت لكان لمصر شأن آخر في سجل التنمية, فتلك الحكومات المتمركزة لم يستهوها السفر محليا, ورضيت بوجود وزير للتنمية المحلية, ومحافظين في جميع محافظات مصر ليس همهم سوي البقاء في السلطة لأطول وقت ممكن. ولا أري الحكومة المؤقتة المحلية تخرج عن هذا الإطار.
وإداريا, لا يمكن الاعتماد علي النموذج الحالي لمحافظات مصر في إحداث التنمية في الاجل الطويل, فالمحافظ سواء كان رجل قانون أو رجل أمن ليس هو من يمكنه تفعيل مشاريع التنمية, فهو مشغول بالازمات اليومية, وبتجميل المدينة, وبجباية التبرعات لذلك, وبالتنسيق بين مديري المديريات التابعة لوزارات مركزية لا سلطان له عليها. لذلك يجب ألا نعول كثيرا علي جهد المحافظ أو علي مجلسه المحلي او رجال اعمال المحافظة من راغبي الاستفادة قبل إفادة شعب المحافظة. وحتي يتسني التغلب علي مشكلة قصور دور الادارة المحلية في تحقيق التنمية, فمن الضروري أن تأتي برامج الحلول من المركز ثم يفرض التنفيذ علي باقي المحافظات.
وللمتسائل عما يمكن أن يأتي به المركز, أطرح مكونات مشروع ريادي تنموي قابل للتنفيذ في بعض المناطق الريفية المحددة من أرض مصر أولا. وبعد التحقق من نجاح نتائجه وتوثيق كل خطوات تنفيذه والمشاكل والعقبات التي واجهت عملية التنفيذ والحلول الحقلية المتخذة, وتكوين دليل عمل يعين فرق إدارة تنفيذ المشروع, يفرض تنفيذ المشروع علي كل المحافظات جبريا في كافة المراكز والقري التابعة لها.
ولابد ان يحقق هذا المشروع مجموعة من الاهداف الفرعية مثل: خلق فرص العمل سواء اثناء او بعد تنفيذ المشروع وتحسين الظروف المعيشية وزيادة الدخول في الريف, وحفز سكان مناطق المشروع علي البدء في تنفيذ المشاريع الفردية أو الجماعية التعاونية التي تساعد علي اطلاق المبادرات وتنمية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا
ولاختيار مناطق تنفيذ المشروع, تجذبني ثلاث مناطق ذات بعد استراتيجي هي مرسي مطروح, وشمال سيناء, ووسط وجنوب الصعيد. وربما يتفهم الجميع الاهمية الاستراتيجية لتلك المناطق سواء أمنيا أو سياسيا. أما اقتصاديا, فإن تنفيذ هذا المشروع القومي لابد أن يستند علي اختيار القري الاكثر فقرا, والاعلي في معدلات البطالة, والاقل نموا, وتلك التي ترتفع فيها نسبة الامية والتطرف الفكري والديني, وتلك التي تقع علي أطراف الوادي القديم, المتاخمة للصحراء.
وأثق في أن هناك إحصاءات عن تلك المعايير في قري ونجوع مصر لدي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء ووزارة التخطيط أما الجهات التي ستقوم بالتخطيط للمشروع الريادي, فتضم وزارة التخطيط وأجهزتها ووزارات الانتاج من صناعة وزراعة, والوزارات الخدمية مثل الاسكان والري والكهرباء والنقل والاتصالات والصحة والتعليم والاستثمار حيث تقوم هذه الوزارات بوضع مكونات وعناصر المشروع, يعاونها في ذلك الصندوق الاجتماعي للتنمية وممثلون عن مؤسسات المجتمع المدني المهتمة باحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وجمعية رجال الاعمال وعن بعض المكاتب الاستشارية المتخصصة وتعمل هذه كمجموعة عمل متكاملة تنتهي من صياغة مشروع نمطي خلال فترة وجيزة وتقوم وزارة التنمية المحلية بإدارة تنفيذ المشروع بتكوين فرق عمل حركية لديها السلطات الكاملة لحل مشاكل التنفيذ إداريا وماليا, ويفضل أن تتكون غالبية تلك الفرق من الشباب المصري.
وأخيرا سأعرض لبعض مكونات المشروع الريادي القومي المقترح الهادف في الأساس الي النهوض بجهود التنمية الريفية في ربوع مصر خلال فترة لا تزيد علي5 سنوات علي أقصي تقدير. حيث يشمل المشروع مجموعة من المكونات المتكاملة مثل مشروعات تمهيد ورصف الطرق والمسالك الريفية والطرق البينية التي تساعد علي توسعة الاسواق المحلية في الريف, وتطهير الترع وقنوات الري والصرف لتحسين نظم الري وتحقيق الاستفادة القصوي من المياه, وتوفير المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي الابتدائي لتوفير بيئة معيشية أفضل, وتوفير مصدر للطاقة الجديدة والمتجددة بالقري سواء لإنارة الطرق الرئيسة او الفرعية بما في ذلك طاقة الرياح او الطاقة الشمسية وصيانتها دوريا, وانشاء حاضنات للمشاريع الصغيرة في مجالات الزراعة والتصنيع الحرفي والتصنيع الزراعي, وتربية الماشية ورعايتها بيطريا علي أراض مملوكة للدولة, وطرح بعض المشاريع الانتاجية التعاونية علي شباب الريف كمشروعات نقل الافراد او المنتجات, ومشروعات المخابز الآلية, وتوزيع الوقود أو انابيب البوتاجاز, ومشروعات تسويق الانتاج الزراعي, وإنشاء مناطق تجميع محمية للانتاج الزراعي, ومستودعات جماعية لتخزين المحاصيل وصوامع صغيرة الحجم لتحمي الحبوب من الفقدان بما يزيد الانتاج المطروح في الاسواق, ومشروعات لتأجير الآلات الزراعية, ومجمعات استهلاكية, ومشروعات لتوفير الرعاية البيطرية, ومشروعات لتقديم الخدمات القانونية غير ذلك.
يضاف الي كل ما سبق تتبني الحكومة تنفيذ مشروعات للرعاية الصحية المتكاملة, وإنشاء مراكز لمحو الامية للكبار ومدارس أساسية في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية, ومراكز لتوزيع التقاوي والشتلات ذات الانتاجية العالية زراعيا, ومراكز للشهر العقاري ونقاط للشرطة وغيرها من خدمات شريطة أن تكون الحاجة اليها أساسية وليست شكلية. ويتوقع أن تسهم في تمويل هذا المشروع القومي الريادي الي جانب الحكومة المصرية جمعيات المجتمع المدني والصندوق الاجتماعي للتنمية, ويمكن أيضا طرح المشروع علي صناديق التمويل العربية مثل الصندوق السعودي والكويتي وابوظبي والاقليمية كالصندوق العربي والبنك الاسلامي للتنمية, والمؤسسات التمويلية الدولية مثل بنك الاستثمار الاوروبي وصندوق الاوفيد( اوبك سابقا) وبنك الاستثمار الاوروبي, والبنك الدولي بعد توفير دراساته الاساسية فنيا ومالياوكلي ثقة أن تتبني رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس الوزراء مثل هذه الفكرة وتنقلها لحيز التنفيذ بأسرع وقت ممكن, لصالح مصرنا الغالية
( الأهرام المصرية 9/10/2013)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews