بريطانيا عالقة بين مطرقة المتشائمين وسندان الحالمين
معظم الأشياء في السياسة نسبية. عاد الاقتصادي البريطاني ليرتعش، معلناً العودة إلى الحياة. بعد سنوات من البؤس العنيد، أخذت الحكومة ترحب بعلامات الانتعاش على أنها إنجاز مذهل. مع ذلك تظل بريطانيا مثقلة بالعجز والديون، والناتج الآن عند مستويات أدنى من مستويات 2007. تقول وزارة المالية إن التقشف لا تزال أمامه سنوات كثيرة.
يعود ساسة بريطانيا إلى وستمنستر بعد قافلتهم السنوية في أنحاء بريطانيا لمؤتمرات الحزب. العدد الذي لا يحصى من الكلمات والوعود والإهانات التي قذفت على الخصوم، أظهرت أنهم يفتقرون إلى الأفكار. لفت نظري بقوة وجود تشابه مع اليورو: تراجعت الأزمة، لكن لا أحد يعلم إلى أين ستتوجه بعد ذلك.
ابتهج المحافظون بزعامة كاميرون بسلسلة الأنباء الاقتصادية الطيبة، لكن الحساب الانتخابي يقول إنهم سيكافحون بمنتهى القوة في 2015 للفوز بالأغلبية الكلية التي من شأنها أن تحررهم من شركائهم الديمقراطيين الليبراليين في الائتلاف. حصل المحافظون نحو 35 في المائة في انتخابات 2010. حتى يتمكنوا من الحكم وحدهم عليهم أن يحصلوا على 40 في المائة أو نحو ذلك – هذا بعد خمس سنوات من المعايير المتراجعة.
هناك بهجة محدودة فقط في مأزق كاميرون أمام إيد ميليباند. صحيح أن غرائب النظام الانتخابي تعني أن زعيم حزب العمال يمكن أن يفوز بالمنصب بحصة أقل من الأصوات، ربما تكون بحدود 35 في المائة. لكن ميليباند يفتقر إلى ملامح رئيس وزراء مقبل معقول. إذا دعوتَ زملاءه ليرسموا لك صورة زعميهم في مدخل 10 داوننج ستريت، ستجد أن بعضهم سيجفل بكل وضوح.
النصر الثالث على التوالي الذي سجلته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كان تذكرة بأنه يغلب على الانتخابات أن يفوز فيها من يسيطر على الوسط. هذا الدرس غاب عن جمهوريي حزب الشاي الذين من المرجح أن الفتوى التي أصدروها ضد الرئيس باراك أوباما ستكلفهم انتخاباً رئاسياً آخر في 2016.
الغريب في بريطانيا هو أن كلاً من المحافظين والعمال يبتعدون عن أرض الوسط. مشكلة كاميرون هي حزبه؛ أما نقطة المقتل بالنسبة للعمال فهي زعيمه.
اسأل الناخبين أن يضعوا أنفسهم في طيف من اليمين إلى اليسار، وستجد أن الغالبية العظمى منهم تتجمهر نحو علامة المنتصف. الفكرة إذن هي أن تطلب منهم أن يضعوا السياسيين على الطيف نفسه: توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كان يهدف دائماً إلى الانتهاء بالضبط في مركز الوسط. ونفهم من الدليل المتمثل في فوزه بثلاثة انتخابات أن هذه لم تكن استراتيجية سيئة. الزعماء الذين يتمتعون بالثقة لتشكيل الطقس السياسي، يستطيعون في هذه الحالة تغيير تصورات الناس حول المكان الذي يقع فيه الوسط. مارجريت ثاتشر حوَّلته إلى اليمين؛ وحوَّله بلير إلى اليسار.
في الماضي فهم كاميرون ذلك. كان يعتبر نفسه إنساناً يميل إلى التحديث – ''وريث بلير'' بين المحافظين، الذي كان يهتم لشأن الفقر، وكان يحمل التغييرات المناخية على محمل الجد، واعتنق الليبرالية الاجتماعية. أما الآن؟ ما يُفهم من خطابه قبل أيام أنه ما زال يعتبر نفسه معتدلاً، لكن النغمة السائدة في المؤتمر، هي التي أدت في الماضي إلى أن يوصف حزب المحافظين بأنه الحزب ''التعيس''. تبنى المحافظون سياسة التشاؤم. وهم في حرب مع الحداثة. ليتون كروسبي، زعيم حملة الحزب، يأتي من مدرسة تقول إن السياسيين يُعرِّفون أنفسهم في مواجهة العدو. لدى المحافظين كثير من هؤلاء الأعداء: الذين يتلقون الرعاية الاجتماعية هم عالة على الآخرين، والمهاجرون يشكلون تهديداً للهوية القومية، والاتحاد الأوروبي هو مؤامرة شريرة ترمي إلى سلب بريطانيا من هويتها الوطنية.
أصبح التمرد ضد القيادة من الأمور العادية في حزب يهاجَم من اليمين بسبب خوفه الشعبوي من الأجانب الذين يُطلَق عليهم اسم ''حزب الاستقلال البريطاني''. يريد نواب المحافظين استراتيجية تجمع الأصوات الأساسية في الحزب، بدلاً من السعي لإقناع المترددين. من جانبه يتعرض كاميرون للضعف بسبب افتقاره إلى قناعة حازمة. ويبدو أنه يعتقد أنه يكفي بالنسبة لرئيس الوزراء أن يبدو مقنّعاً في منصبه الرسمي.
كان من الممكن أن يغتنم ميليباند الفرصة ليدعي أن المحافظين أخْلوا المنطقة. لكن في حين أن رئيس الوزراء من وزن الريشة دَفَعَتْه الريح إلى اليمين، إلا أن الذي حدث هو أن زعيم المعارضة أخذ يتمشى باتجاه اليسار. يبدو أن قدوته هو فرانسوا هولاند. ألم يفُز الرئيس الفرنسي بالسلطة من اليسار؟ من المؤكد أن العمال يستطيعون فعل الأمر نفسه. المشكلة هي أن فرنسا، البلد الذي لا يزال فيه الشيوعيون يحصلون على عدد لا بأس به من الأتباع، ليست بريطانيا. على أي حال، المشاكل الحالية التي يعانيها هولاند، إلى جانب نجاح ميركل، لا تكاد تؤيد حجة العمال بأن الأزمة الاقتصادية حوَّلت المد السياسي في أوروبا، لمصلحة أحزاب اليسار.
لا شك في صدق الرغبة عند ميليباند لتحقيق العدالة الاجتماعية. وهو على حق كذلك في إقامة تمييز بين الرأسمالية واقتصاد السوق: الأولى يمكن أن تتعرض للفساد بسهولة، في حين أن الأمر الثاني هو أفضل ما لدينا. الأمر الغائب هو حكاية موثوقة حول المكان والكيفية التي سيقيم بها التوازن بين اقتصاد السوق والإنصاف الاجتماعي. ما نجده في مكانها هو سياسة أحلام اليقظة، القائمة على الأمل بأن عدداً كافياً من الناخبين سيهجرون الديمقراطيين الليبراليين بزعامة نيك كليج، ليحملوا العمال إلى خط النصر. في أوقات أخرى سيكون حزب كليج هو المستفيد الطبيعي من هذا الابتعاد السياسي عن أرض الوسط. وهو يتقدم بحجة مقنعة مفادها أن الديمقراطيين الليبراليين يستطيعون تثبيت العمال في الوسط أو دفع المحافظين بعيداً عن اليمين. ربما يكون أداء حزبه أفضل إلى حد كبير مما تشير إليه استطلاعات الرأي التعيسة. لكنه خسر كثيراً من ناخبي الديمقراطيين الليبراليين الذين يرفضون تسويات الائتلاف. إذا برز كليج مرة أخرى على أنه ''صانع الملوك'' الذي يقرر من هم الزعماء السياسيون، فسيكون ذلك على الأرجح الخيار المسبق الموجود.
حين أسافر في الخارج، كثيراً ما أُسأل عمن سيفوز في انتخابات 2015. وجوابي هو ''لا أحد'' – وبالتأكيد ليس بريطانيا. من الممكن أن تتغير الأمور. لكن حين ننظر إلى الوضع عن بعد، نجد أن بريطانيا قوة متراجعة تتعرض لضربات متلاحقة من الأحداث ومتجهة، بعيون مغلقة، نحو خروج كارثي من منطقة اليورو. حين ندقق النظر، نجد أن الوضع السياسي لبريطانيا لا يكاد يعطيك أي نفي لهذه الانطباعات.
( فايننشل تايمز 7/10/2013 )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews